تعتبر البذلة الرسميّة الأسلوب الحداثيّ "للتنكّر" الذي تبناه الرجال منذ منتصف القرن السابع عشر، هي ليست فقط زياً مُرتباً، مُقطعاً بدقة، حاد الحواف، بل شكلاً من أشكال القوة، تعكس السلطة التي يختزنها صاحب البذلة، هي الأشد أناقة ووضوحاً، وفي ذات الوقت، الأشد معياريّة، كونها مُشتركة بين "الرجال" لجعلهم متشابهين. وتعكس أدوارهم المُتقنة، الثابتة التي لا تتغير. فجماعة من رجال يرتدون بذلات رسميّة، هي أشبه بحديقة رومانيّة لا تتغير، ثابتة على مدار العام، كون الثبات يعكس القوة والقدرة على الهيمنة والحفاظ على شكل واحد مضبوط مقاوم لتغيرات الداخل والخارج في سبيل الوظيفة التي تتمثل بالـ"هيمنة عبر الوقت".
هذه السطوة التي تمتلكها البذلة، والتي يتبناها الجنسان في ما يسمّى الـpower look، تفككت في التسعينيات وبداية الألفية الجديدة ليحل عوضاً عنها "العادي" والكاجوال. أي ذاك اللباس الذي لا نستطيع بدقة أن نحدد وظيفة مرتديه، ولا نتحدث هنا عن "الأزياء العاديّة" في العروض الكبرى التي تمتلك رسالة سياسيّة، بل تلك التي نرتديها في الحياة اليومية، والتي لا تثير الشبهة، الغامضة، التي تميّز مديري الشركات الكبرى وأغنياء السيليكون فالي، والتي يرى البعض أنها شكل من أشكال الرأسماليّة المتأخرة، حيث القمصان الخفيفة ذات الألوان الفاتحة، والأحذية الجلديّة البسيطة المليئة بالخيوط المصممة يدوياً، تلك التي لا تبدو غاليّة ومتقنة، لكنها أشبه بزينة خفيفة تكسو جسد المال العاري. هذا الزيّ العاديّ وليد مساحات العمل التي تشبه "ديزني لاند"، تلك التي تبنتها فيسبوك وغوغل وغيرها من الأماكن التي لا "يظهر" فيها الموظفون كالآلات، تضبطهم صرامة الشكل. والهدف من ذلك، هو جعل العاملين في هذه المساحات يشبهون المستخدمين، فلا فرق بينهم وبين صاحب العمل، بصورة أدقّ. ثياب الموظفين تعكس القيم التي تروج لها منتجاتهم وخدماتهم، وأهمها ديمقراطيّة المعرفة والاستهلاك، فالخدمات والسلع موجهة لكافة الأفراد، وليمكن لـ"أي شخص" أن يستفيد منها، أو أن يصبح جزءاً من فريق العمل.
هذه "الأزياء" المريحة، العمليّة، وفي الكثير من الأحيان رخيصة كالـ The fleece vest أو السترة بلا أكمام، تدمج خصائص البذلة الرسميّة مع اللباس العادي، والأهم أنها تستحضر الديناميكيّة التي تميز البذلات العسكريّة، لتغدو غرضاً من أغراض التنكر الذي يحوي سلطة الانضباط في ذات الوقت، أي القدرة على الحركة بسهولة وتجاوز العقبات، سواء كانت ماديّة أو فكريّة، كالجنديّ الذي يمكن أن يقف بالصف دون أن يتحرك، وفي ذات الوقت يتدحرج في التراب ويزحف على بطنه، هي تصلح للعمل وللشارع، جدية في ذات الوقت ساخرة، تخفي أكثر ما تكشف، والتي نتعرف على أشكالها في صفحة إنستغرام "زي وسط المدينة" التي تلاحق انتشار هذا الشكل من الأزياء.
شركات الإنترنت، ومديروها الشبان الذين خرجوا من كراجات المنازل، وتحولوا إلى أغنى أغنياء العالم، هم من يمثلون أوج "الشكل العاديّ"، فثيابهم غامضة ولا تعكس مقدار قوتهم ولا كمية المال التي يمتلكونها، كستيف جوبز ومارك زوكربيرغ الذين لا تتغير ثيابهم العملية، فهم لا يرتدون بذلات كحيتان وول ستريت وموظفي البنوك. بل قمصاناً وبناطيل مستوحاة من اللباس الرياضيّ الذي يحافظ على خصائص الرجولة، لكنه يحررها من مفهوم التنكر نحو الديناميكيّة. فالرجل ذو البذلة خائف، لا يخاطر بماله، ولا ينتمي للألفية الجديدة، بعكس "العادي" الذي يستثمر في قطاعات جديدة ناشئة، كشركات لتجميد الدماغ، وتكنولوجيا التلاعب الجيني، هو حيويّ كالرياضي الذي لا يخاف التحدّي الجديد.
مؤسس شركة "آبل" ستيف جوبز (جاستن ساليفان/Getty)
الأهم أن هذا الصراع "الشكليّ" والسياسيّ نراه حين ارتدى زوكربيرغ بذلة رسميّة في جلسة الاستماع أمام الكونغرس، كاشفاً لنا عن شكلين لسلطتين متنازعتين. الأول نراه في الدولة ومؤسساتها الرسميّة والقانونيّة، والثاني هو ما بعد الدولة، حيث التشبيك والاتصال الآني في عالم تتلاشى ضمنه السلطة الرمزيّة، والتي تتجلى بجسد القاضي وتنكره والمكان وزخرفته، لتحل مكانها الشاشة و"الإيموجيز". لنرى أنفسنا أمام صراع، طرفه الأول الدولة والقانون المكتوب الثابت، وطرفه الثاني سياسات الخصوصيّة المتغيرة دوماً.
يستدعي الزيّ العادي أيضاً مفهوم الإجازة، تلك التي كلما طالت كلما اتضح مقدار "المال" و"القوة" التي يمتلكها الفرد، وقدرته على التحرر من إيقاع العمل وشكله، والأهم استمراره بالإنتاج. فلا فرق واضحاً بين وقت العمل وزيه وبين وقت الإجازة وزيها، ما يعني تداخل الأنشطة بين الاثنين. لكن في ذات الوقت، تشكل ثياب الإجازة تهديداً إن لم تكن صاحب العمل، هي فرصة للاطلاع على الجانب اللاجديّ فيك و"شكلك العادي"، ذاك الذي تكون مرتاحاً فيه. بل إن البعض يرى أن "أيام العمل بالزي العادي"، ليست إلا فخاً من قبل الشركات الكبرى، للكشف عن خلفية الشخص وأسلوب حياته، عبر التعرف على ما يرتديه والأسلوب الذي يقدم به نفسه للعلن خارج فضاء العمل.
هذه السطوة التي تمتلكها البذلة، والتي يتبناها الجنسان في ما يسمّى الـpower look، تفككت في التسعينيات وبداية الألفية الجديدة ليحل عوضاً عنها "العادي" والكاجوال. أي ذاك اللباس الذي لا نستطيع بدقة أن نحدد وظيفة مرتديه، ولا نتحدث هنا عن "الأزياء العاديّة" في العروض الكبرى التي تمتلك رسالة سياسيّة، بل تلك التي نرتديها في الحياة اليومية، والتي لا تثير الشبهة، الغامضة، التي تميّز مديري الشركات الكبرى وأغنياء السيليكون فالي، والتي يرى البعض أنها شكل من أشكال الرأسماليّة المتأخرة، حيث القمصان الخفيفة ذات الألوان الفاتحة، والأحذية الجلديّة البسيطة المليئة بالخيوط المصممة يدوياً، تلك التي لا تبدو غاليّة ومتقنة، لكنها أشبه بزينة خفيفة تكسو جسد المال العاري. هذا الزيّ العاديّ وليد مساحات العمل التي تشبه "ديزني لاند"، تلك التي تبنتها فيسبوك وغوغل وغيرها من الأماكن التي لا "يظهر" فيها الموظفون كالآلات، تضبطهم صرامة الشكل. والهدف من ذلك، هو جعل العاملين في هذه المساحات يشبهون المستخدمين، فلا فرق بينهم وبين صاحب العمل، بصورة أدقّ. ثياب الموظفين تعكس القيم التي تروج لها منتجاتهم وخدماتهم، وأهمها ديمقراطيّة المعرفة والاستهلاك، فالخدمات والسلع موجهة لكافة الأفراد، وليمكن لـ"أي شخص" أن يستفيد منها، أو أن يصبح جزءاً من فريق العمل.
هذه "الأزياء" المريحة، العمليّة، وفي الكثير من الأحيان رخيصة كالـ The fleece vest أو السترة بلا أكمام، تدمج خصائص البذلة الرسميّة مع اللباس العادي، والأهم أنها تستحضر الديناميكيّة التي تميز البذلات العسكريّة، لتغدو غرضاً من أغراض التنكر الذي يحوي سلطة الانضباط في ذات الوقت، أي القدرة على الحركة بسهولة وتجاوز العقبات، سواء كانت ماديّة أو فكريّة، كالجنديّ الذي يمكن أن يقف بالصف دون أن يتحرك، وفي ذات الوقت يتدحرج في التراب ويزحف على بطنه، هي تصلح للعمل وللشارع، جدية في ذات الوقت ساخرة، تخفي أكثر ما تكشف، والتي نتعرف على أشكالها في صفحة إنستغرام "زي وسط المدينة" التي تلاحق انتشار هذا الشكل من الأزياء.
شركات الإنترنت، ومديروها الشبان الذين خرجوا من كراجات المنازل، وتحولوا إلى أغنى أغنياء العالم، هم من يمثلون أوج "الشكل العاديّ"، فثيابهم غامضة ولا تعكس مقدار قوتهم ولا كمية المال التي يمتلكونها، كستيف جوبز ومارك زوكربيرغ الذين لا تتغير ثيابهم العملية، فهم لا يرتدون بذلات كحيتان وول ستريت وموظفي البنوك. بل قمصاناً وبناطيل مستوحاة من اللباس الرياضيّ الذي يحافظ على خصائص الرجولة، لكنه يحررها من مفهوم التنكر نحو الديناميكيّة. فالرجل ذو البذلة خائف، لا يخاطر بماله، ولا ينتمي للألفية الجديدة، بعكس "العادي" الذي يستثمر في قطاعات جديدة ناشئة، كشركات لتجميد الدماغ، وتكنولوجيا التلاعب الجيني، هو حيويّ كالرياضي الذي لا يخاف التحدّي الجديد.
مؤسس شركة "آبل" ستيف جوبز (جاستن ساليفان/Getty)
الأهم أن هذا الصراع "الشكليّ" والسياسيّ نراه حين ارتدى زوكربيرغ بذلة رسميّة في جلسة الاستماع أمام الكونغرس، كاشفاً لنا عن شكلين لسلطتين متنازعتين. الأول نراه في الدولة ومؤسساتها الرسميّة والقانونيّة، والثاني هو ما بعد الدولة، حيث التشبيك والاتصال الآني في عالم تتلاشى ضمنه السلطة الرمزيّة، والتي تتجلى بجسد القاضي وتنكره والمكان وزخرفته، لتحل مكانها الشاشة و"الإيموجيز". لنرى أنفسنا أمام صراع، طرفه الأول الدولة والقانون المكتوب الثابت، وطرفه الثاني سياسات الخصوصيّة المتغيرة دوماً.
يستدعي الزيّ العادي أيضاً مفهوم الإجازة، تلك التي كلما طالت كلما اتضح مقدار "المال" و"القوة" التي يمتلكها الفرد، وقدرته على التحرر من إيقاع العمل وشكله، والأهم استمراره بالإنتاج. فلا فرق واضحاً بين وقت العمل وزيه وبين وقت الإجازة وزيها، ما يعني تداخل الأنشطة بين الاثنين. لكن في ذات الوقت، تشكل ثياب الإجازة تهديداً إن لم تكن صاحب العمل، هي فرصة للاطلاع على الجانب اللاجديّ فيك و"شكلك العادي"، ذاك الذي تكون مرتاحاً فيه. بل إن البعض يرى أن "أيام العمل بالزي العادي"، ليست إلا فخاً من قبل الشركات الكبرى، للكشف عن خلفية الشخص وأسلوب حياته، عبر التعرف على ما يرتديه والأسلوب الذي يقدم به نفسه للعلن خارج فضاء العمل.