قمر ليل طويل

08 ديسمبر 2018
هاني زعرب/ فلسطين
+ الخط -

سقط البيت، وسقط عبد السلام بين الصخور وهو يعدو إليه، بعد أن سمع انفجاراً مرعباً في القرية. تراخى رأسُه كجمرة تسقط لتستقرّ بين الرماد. كان آخر ما التمع في عينيه وجه ميساء، قبل أن ينطفئ نورهما إلى الأبد.

وحده لسنواتٍ كان يمشي متوكّئاً على قلبه. منذ أن رحلت، لم يعرف للحياة معنىً. ترك بيته، والجامعة، وترك مهنة طالما أحبّها. اشترى بما لديه من مالٍ صندوقاً خشبيّاً، وراح يجلس على قارعة الطريق.

وفي ليلة ماطرة، مرّت بقربه سيّدة. خطت خطوتين أمامه ثمّ تراجعت نحوه، فهِم لغة الأقدام، فأشار إلى صندوقه الخشبي المليء بعلب العلكة الملوّنة. أراد أن يلتقط منها النقود، فإذا به يتلمّس يداً، قالت منى: "هل ستبقى في هذا الليل والبرد هنا وحدك؟".

- من أنت؟

- اسمي منى بركات. هل من أحدٍ يوصلك؟

- كلّا، شكراً أنا معتاد. سأستقلّ سيارة أجرة بعد قليل حين تعتم.

- هل تريد أن أوصلك؟

تململ على رصيفه المعتّق بروائح البنّ والبخور والكعك من المحلات المجاورة، ففهمت أنه لا يرفض. قالت: "هيا تفضّل". مشت أمامه، فتحت له باب السيّارة، جلس في المقعد الخلفي، أدارت محرّك سيارتها فقال: "أنزل عند أول الطريق".

- بأمرك. أجابت منى بحياء ممزوج بالعطف.

ساد صمت قطعه سؤالها: "هل تعيش وحدك؟".

- أجل . أجاب عبد السلام باقتضاب.

- أليس لديك عائلة؟

- كان لي.

- وأين هم؟

- ماتوا. قالها بنبرة توحي باللامبالاة.

- جميعهم؟

- في حرب تمّوز.

- أنا آسفة لخسارتك.

- شكراً. أرجوك أريد أن أترجّل.

- ولكنّ أوّل الطريق مازال بعيداً.

- يكفي هنا جيّد. شكراً.

أضاف وهو يقترب من شبّاكها ويرفع ناظريه إلى الأعلى، ما جعلها ترى لأوّل مرّة في حياتها لون عينَي إنسان أعمى "عذّبتك".

- على الرحب والسعة.

تابعَت طريقها. وصلت إلى بيتها منهكةً ولكنها سعيدة. شعور غريب حام في صدرها كأنّ المطر في الخارج يتساقط فيه.

في اليوم التالي، قرّرت العودة إلى المكان الذي رأته فيه. دارت بالسيّارة حول المكان، لكنها لم تجده. أيّام توالت وهي تذهب إلى ذلك الحيّ المكتظ بالناس والسيارات والروائح والألوان، كلّ شيء في مكانه، إلا عينا عبد السلام.

وفي يومٍ كانت توصل ابنها إلى المدرسة، فإذ به أمامها، رأسه المتطاول، شعره المتماوج الأبيض، عيناه الملوّنتان، ثيابه المبعثرة على جسده النحيل، مشيته المتعرّجة، صندوقه الخشبيّ الحائل إلى السواد، صاحت من دون وعي: "عبد السلام!". التفت نحو الصوت مباشرة، ومن فوره عرفه. ركنت سيّارتها بجانب رصيفه، قالت عاتبةً: "أين كنت كل تلك المدّة؟".

- أمشي.

- أين؟

- قلت لك كنت أمشي.

- أين كنت تمشي؟

- من أنت؟

- أنا منى التي أوصلتك تلك الليلة الباردة حالكة السواد.

- آه أهلا بك. ولكن من أين عرفت اسمي.

- سألت عنك.

- لماذا؟ ماذا تريدين منّي؟

- لا شيء أريد مساعدتك.

- كيف؟

- هل تريد أن تعمل؟ أعني هل تعرف أن تصنع شيئاً؟ ما هي مهنتك؟

استدار برأسه بعيداً. ثم قال لها: "اتركيني وشأني. لو كنت أريد عملاً لعملت".

لم تتفاجأ، لا بدّ أنه عانى كثيراً، لكنّ شعورها الغامض ذاك ظلّ يلازمها. حتى ابنها كريم لاحظ اهتمامها بالرجل الأعمى كما كان يصفه، فحاولت أن تتظاهر أنها لا تهتم، لم تعد تمرّ بذلك الشارع إلا حين تكون وحدها، لكن عبد السلام كان قد اختفى.

في ليلة رأس السنة، والسماء تفيض بأمطارها على أرض مدينتها البحرية العتيقة، خرجت تصطحب ابنها إلى أحد المطاعم للاحتفال. راحا يتحدّثان ويثرثران، كلٌّ يحلم بعامه الجديد على طريقته، وما إن دلفا من السيّارة حتى التمعت عينا عبد السلام في العتمة. توقّفت وهي لا تعرف ما تفعل، استغلّت عدم انتباه كريم لوجوده، فطلبت منه أن يسبقها إلى الداخل لتوافيه بعد أن تركن السيّارة.

لم تعرف ما عليها فعله، اقتربت من مكانه على الرصيف، انتبَه إلى حركتها، مدّ يده بعلبة علكة، ليجد يدها تصافحه. عرف أنّها هي. تحرّك محاولاً الوقوف، بادرته: "إلى أين؟".

- إلى عتمتي.

- ولكن!

- اسمعي يا سيّدتي... لا أريد شيئاً، أحبّ فقط أن أجلس على ذلك الرصيف، أطالع الوجوه، أتلمّسها، ومنذ جئتِ سبّبتِ لي ألماً.

- أنا؟ لماذا؟ أنا أريد مساعدتك.

- لأنك أبعدتني عن ذلك الشارع. هو شارع ذكرياتي الطويلة. أعرف أنّك لا تفهمين، وأشكرك على اهتمامك بي، ولكنني لا أريد إلا الانتظار في ذلك الشارع.

- من تنتظر؟

- من لن يأتي.

- عفواً. اعذرني لم أفهم.

- أنتظر ميساء.

- من ميساء؟

- خطيبتي.

- ولِمَ لا تذهب إليها بدلاً من انتظارها في الشارع.

- قلت لك لن تأتي.

- ولِم تنتظرها إن كانت لن تأتي؟ هل تعذّب نفسك؟

- كلا أنا أنتظر غيابها. أحرس ليلها الطويل؟

- تكلّمني كفيلسوف يا عبد السلام، وتجلس في شارع معتم كالمجنون.

- هل يمكننا أن نذهب من هنا بالسيارة؟

- ولكن إبني ينتظرني في الداخل.

- لن ينتبه لغيابك، لن نتأخّر.

مشت منى بقربه، حاولت إمساك يده الخشنة فأبعدها، جلس في المقعد، وقال: "إلى الإسماعيلية".

حين وصلا، أشار بيده إلى درج عالٍ، خطت منى خطوة متردّدة، فيما تسلّقه عبد السلام بخفّة، وعند آخر درجة كان باب كبير يتعالى إلى السقف الرمادي، لمبة إنارة خافتة كانت كافية أن تريها طريقها إلى تلك الغرفة الملآى بالكتب، كتب فوق المناضد وعلى الأريكة ، كتب فوق رفوف تآكلت وتزاحمت عليها العناكب والجرذان وأنصاف الشموع المطفأة والذائبة، التفتت إليه وقالت: "ما كلّ هذا؟ من أنت؟".

- قال وهو يرفع عينيه ويدوّرهما في محجريهما: "لا تستغربي، هذا الظلام عرفته بعد النور الساطع، ولكن أقول بصدق.. لا فرق".

اقتربَت من رفوف الكتب العملاقة، راحت تطالع العناوين على ضوء المصباح الخافت، هل قرأ هذا الرجل هذه الكتب كلّها؟ هل عرفت هاتان العينان نوراً؟ ما الذي حصل معه؟

"لا شيء، تغيير طفيف"... حرّك يده نحوها كأنّه يبحث عنها، فاقتربت منه وتوكّأ عليها كي يجلس، ثمّ أضاف: "كنت أنتظرك".

- تنتظرني أنا؟ لكنّك هربت منّي.

- وهل يهرب أحد من قدره؟

- ولكن كيف تنتظرني؟ ومنذ متى؟ ولماذا؟

- هي قالت لي ذلك وأنا أسير في ليلها.

- من؟

- ميساء خطيبتي.

- وهل تعرفني ميساء؟ أين هي؟ لِم تتركك في هذا الليل والبرد وحدك؟

- هي ما تركتني. كلّ هذي السنين وأنا أنتظر مجيئك، طفتُ شوارع لبنان كلها وأنا أبحث عن يدك. كلّ تلك السنين وأنا وحدي هنا أناديك وهي هناك تناديني.

خافت بشدّة، وللحظة ظنّت أنه مجنون، أجل لا بدّ أنه مجنون، قالت وهي تحاول الخروج من الباب: "اعذرني، ابني ينتظرني، كل عام وأنت بخير سيّدي".

- انتظري. إلى أين؟ خذيني إلى ميساء.. أرجوك كل تلك السنين في عتمة الشوارع، والآن تهربين. أرجوك.

- لكنني لا أفهم. لمَ تريد الموت وأمامك الحياة؟ وما شأني بموتك؟ أردت فقط مساعدة رجل مسكين يطوف الشوارع ليلاً.

- وهل إذا أخبرتك ستفهمين؟ لا داعي للفهم، إنها الحياة.. إنه القدر.. وجه آمالنا العابث، أرجوك يا منى.. أنا في هذي العتمة منذ سنين، أطلقي نوري الحبيس، أرجعيني إلى مهدي، خذيني إلى موتي، ولتكن لك الحياة.

ازداد خوفها وارتباكها، حملت حقيبتها عن الكنبة، وهمّت مسرعةً إلى الخارج، اصطدمت قدمها بعلبة موضوعة جنب الباب، لم تكترث وتزاحمت خطواتها على الدّرج. وما كادت تصل إلى سيّارتها حتى دوّى انفجار في ذلك البيت. لم تنظر، وانطلقت مسرعةً. وصلَت إلى المطعم ترتجف. سألها كريم عن سبب تأخّرها، فقالت إنها لم تجد مكاناً تركن فيه بسهولة لأن اللية عيد. سألته ماذا يحبّ أن يأكل، فسألها عن حالها ولمَ تبدو هاربةً من شيء ما. أنكرت واستأذنته أن تذهب إلى الحمّام كي تصلح ماكياجها.

فجأةً، خفتت أصوات الموسيقى والناس، فالتفتت منى ومعظمُ المتواجدين إلى الشاشة العملاقة في المطعم، حيث يغطّي تقرير مباشر حادث وفاة الكاتب عبد السلام معطي إثر انفجار التهم بيته لم تُعرَف أسبابه بعد.

عادت الموسيقى عالية، وبقيت منى متسمّرة في مكانها، نادى عليها كريم فانتبهت وتحرّكت تريد السير، وما كادت قدمها تخطو، حتى داهمها رجل في مقتبل العمر، يلبس جاكيتاً بنيّة وله عينا عبد السلام.. أو هكذا رأت وهو يعتذر منها ويغيب في الزحام ودخان الساهرين.


* كاتبة قصة من فلسطين

المساهمون