01 نوفمبر 2024
قمة ترامب - كيم ونظرية صانع القرار
ثمّة نظريات عديدة في محاولات فهم عملية صنع القرار في دراسات النظم السياسية، واحدة منها نظرية صانع القرار السياسي ذاته. وعلى الرغم من أنه من الصعب تصوُّر أن صنع القرار في الدولة الحديثة اليوم، وضمن سياقات سياسية معقدة ومركبة، يمكن أن يخضع لنزوات الحاكم الفرد ورغباته، إلا أنه لا يمكن إهمال هذا البعد كذلك. صحيحٌ أن صانع القرار في أغلب الدول الحديثة لم يعد فرداً، كما كان الحال في القرون السابقة، بقدر ما أنها مؤسساتٌ أو توازناتٌ داخل مؤسسات الحكم، حتى في الدول المتخلفة، إلا أن المسؤول الأعلى في الدولة يبقى ركناً أساسياً في صياغة القرار وتوجهاته، فهو المنوط به، في النهاية، تبني سياسةٍ معينةٍ ضمن خياراتٍ كثيرة ومتغيراتٍ شتى. داعي هذا التذكير ليس التفصيل في نظرية صنع القرار، فهي دراسة متخصصة، ليس هذا مكانها، بقدر ما أنها محاولةٌ لفهم ما جرى في القمة الأميركية – الكورية الشمالية، والتي جمعت زعيمَي البلدين في الثاني عشر من يونيو/ حزيران الجاري، في سنغافورة، في محاولةٍ للتوصل إلى حلٍ يفكك الترسانة النووية لبيونغ يانغ، في مقابل رفع العقوبات الأممية المفروضة عليها، ورفع العزلة الدولية عنها.
مثّل البرنامج النووي الكوري الشمالي تحدياً للولايات المتحدة منذ أوائل التسعينيات، وفشل ثلاثة رؤساء أميركيين، بيل كلينتون وجورج دبليو بوش وباراك أوباما، في إلزام الدولة الاشتراكية بأي اتفاقاتٍ عقدت معها لتفكيك ترسانتها النووية، أو كبح جماح برنامجها النووي العسكري. ولا توجد أي ضماناتٍ أبداً أن قمة دونالد ترامب مع كيم جونغ أون سيكون مصيرها أفضل،
خصوصاً أن الإعلان المشترك الصادر عنهما بعد القمة جاء فضفاضاً وغامضاً. مثلاً، لم يشر صراحةً، وبشكل مباشر، إلى التزام بيونغ يانغ بنزع سلاحها النووي، بقدر ما أنه تحدث عن التزام الدولتين "بالعمل من أجل نزع السلاح النووي بالكامل من شبه الجزيرة الكورية"، وهو ما يعني أنه قد يشمل "المظلة النووية" الأميركية في شبه الجزيرة الكورية التي تحمي كوريا الجنوبية واليابان. إلا أنه سيكون من الخطأ التعجل هنا، وافتراض أن ترامب سيفشل كما فشل أسلافه، فترامب أثبت أنه رئيسٌ من طراز مختلف، وهو لا يتردّد في دفع الأمور إلى حافة الهاوية، كما أنه متحرّرٌ من قيودٍ سياسيةٍ كثيرةٍ كبلت من قبله من الرؤساء.
لا تقتصر غريزة دفع الأمور إلى حافة الهاوية لدى ترامب على الملف النووي الكوري الشمالي، بل رأيناها في ملفات داخلية وخارجية كثيرة. مثلاً، على الصعيد الداخلي، بعد نجاحه في الانتخابات الرئاسية أواخر عام 2016، وقبل أن يتسلم مقاليد الأمور رسمياً مطلع عام 2017، خاض معركة شرسة مع شركة كارير الأميركية للتكنولوجيا، والتي كانت تعتزم نقل منشآت لها من ولاية إنديانا إلى المكسيك، للتوفير في نفقاتها. وفعلاً، نجح ترامب، عبر حزمة محفزاتٍ لا تخلو من وعيد، في إقناعها بالإبقاء على منشآتها، وبالتالي الحفاظ على آلاف الوظائف الأميركية. حدث الأمر نفسه، بعد تسلم ترامب الرئاسة، مع شركتي بوينغ لصناعة الطائرات و"لوكيد مارتن" المصنعة للطائرات الحربية الأميركية، حيث نجح في إلزامهما بتغيير شروط التعاقد مع الحكومة الأميركية، ووفر مليارات الدولارات. وعلى صعيد السياسة الخارجية، لم يتردّد ترامب في الضغط على أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) لرفع مساهماتهم المالية في الحلف. كما لم يتردّد في الانسحاب من اتفاقية باريس للتغيرات المناخية، أو من الاتفاقات التجارية الدولية، وكذلك من الاتفاق النووي مع إيران، وصولاً إلى إحداث حروبٍ تجاريةٍ مع الحلفاء الأميركيين، كما في فرضه تعرفة جمركية على واردات الصلب والألمنيوم، في الوقت الذي يحاول فيه التقارب مع روسيا، على الرغم من أن حملته الانتخابية الرئاسية تخضع لتحقيقات أميركية بشأن مزاعم تنسيق بينها وبين روسيا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
إذن، ليس ترامب رئيساً تقليدياً، وما كان لرئيسٍ قبله أن يغامر بكثيرٍ مما يغامر به اليوم، والسبب في ذلك أنه رئيس شَعْبَوِيٍّ، وهو لا يهتم كثيراً بنتائج استطلاعات الرأي، ولا حتى بحسابات مؤسسة الحكم التقليدية. كل ما يهمه رضا قاعدته الانتخابية، وهي معه، ما دام يعبر عن مصالحها المتسقة مع شعاره الانتخابي الدعائي: "أميركا أولاً". غير ذلك لا يعني لترامب شيئاً، ولا حتى لأنصاره. لا هو ولا هم يهتمون لتصريحاته المهينة والمثيرة للاشمئزاز، كما ضد النساء أو السود أو المسلمين أو مخالفيه السياسيين. بل أظهرت بعض نتائج الانتخابات التمهيدية التي جرت في الحزب الجمهوري، في الأيام الأخيرة، أن بعض معارضيه ومنتقديه خسروها لصالح من هم أكثر تأييداً لترامب، ضد من انتقدوا بعض تصريحاته الجنسية البذيئة، خصوصاً ضد النساء.
على الجانب الكوري الشمالي، ليس كيم مقيداً بحسابات مؤسسة حكم، ولا هو يخضع لأحد في نظامه. هو يحكم بسلطةٍ مطلقة، لا يكف يده شيء، اللهم إلا مراعاة بعض التوازنات داخل نظامه، والتي يمكن له تعديلها أو قلبها لو أراد. ولأن كيم ليس انتحارياً، فإنه لا يريد صداماً عسكرياً نووياً مع الولايات المتحدة. هو يدرك حدود قوة بلاده، والتفوق الأميركي الساحق، ولكنه، كما ترامب، بارعٌ في لعبة حواف الهواية، وإن حشر في زاويةٍ ضيقةٍ لا مخرج منها، فقد يتبنّى خيار الانتحار، ولكن ليس وحيداً، إذ قد يجر معه العالم إلى حربٍ نوويةٍ كارثية.
أدرك كيم من خلال معارك التصريحات النارية مع ترامب، والشتائم المتبادلة بينهما، أنه أمام رئيسٍ أميركيٍّ مختلف. لا يخضع للحسابات التي تقول له مؤسسة الحكم التي يرأسها إنها هي المنطق والصواب. عندما هدّد كيم بـ"الزر النووي" على مكتبه، رد عليه ترامب بأن لديه "زرّاً" نووياً أكبر على مكتبه. كلا الرجلين يملك درجةً من الوضاعة لتبادل الشتائم، وقد تبادلاها، فوصف ترامب كيم بـ"القصير والسمين"، ورد الأخير بوصف ترامب بـ"المختل عقلياً والعجوز الخرف". ولكن، مرة أخرى، ليس كيم انتحارياً، فالعقوبات الاقتصادية الدولية التي نجحت إدارة ترامب في تمريرها عبر مجلس الأمن الدولي، في أغسطس/ آب الماضي، تهدّد نظام كيم بالانهيار تحت وطأتها. هذا آخر ما يريده كيم، فهو يريد سلاحاً نووياً ليحمي فيه نظامه، لا ليُشنق به.
باختصار، لا يمكن استبعاد نظرية صانع القرار في سياق المفاوضات بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية اليوم، من دون أن يعني ذلك اختزال المشهد كله في شخصيتين نزقتين. المشكلة هنا أن نزق ترامب وكيم هو أكبر تهديد لفرص التوصل إلى اتفاقٍ بين بلديهما، يضمن تفكيك ترسانة بيونغ يانغ النووية في مقابل ضمانات أميركية أمنية جوهرية لنظامها وفك عزلته. يظن ترامب أنه يفهم كل شيء، وبالتالي ليس بحاجة إلى إعداد للتفاوض، وهذا ما عكسه فعلاً الإعلان المشترك الذي صدر عن قمته مع كيم، فكل ما انتقده في الاتفاق النووي مع إيران الذي هَنَدَسَتْهُ إدارة سلفه أوباما، وقع هو في أكثر منه. مثلاً، لم يشر الإعلان المشترك، من قريب ولا بعيد، إلى صواريخ كوريا الشمالية الباليستية. دع عنك أنه لم يضع آليات رقابةٍ صارمةٍ على التحقق من التزام كوريا الشمالية بتفكيك ترسانتها النووية كلياً. قد يتم ذلك في مفاوضات مسؤولي البلدين القادمة، ولكن إن عجزوا عن تحقيق ذلك، وإنْ لم يتفقوا على مفهوم "نزع السلاح النووي بالكامل من شبه الجزيرة الكورية"، فإن المنطقة، بل والعالم، قد يكونان على موعدٍ مع حربٍ نووية، فكلا زعيمي البلدين قادران على اتخاذ قرارات كارثية.
مثّل البرنامج النووي الكوري الشمالي تحدياً للولايات المتحدة منذ أوائل التسعينيات، وفشل ثلاثة رؤساء أميركيين، بيل كلينتون وجورج دبليو بوش وباراك أوباما، في إلزام الدولة الاشتراكية بأي اتفاقاتٍ عقدت معها لتفكيك ترسانتها النووية، أو كبح جماح برنامجها النووي العسكري. ولا توجد أي ضماناتٍ أبداً أن قمة دونالد ترامب مع كيم جونغ أون سيكون مصيرها أفضل،
لا تقتصر غريزة دفع الأمور إلى حافة الهاوية لدى ترامب على الملف النووي الكوري الشمالي، بل رأيناها في ملفات داخلية وخارجية كثيرة. مثلاً، على الصعيد الداخلي، بعد نجاحه في الانتخابات الرئاسية أواخر عام 2016، وقبل أن يتسلم مقاليد الأمور رسمياً مطلع عام 2017، خاض معركة شرسة مع شركة كارير الأميركية للتكنولوجيا، والتي كانت تعتزم نقل منشآت لها من ولاية إنديانا إلى المكسيك، للتوفير في نفقاتها. وفعلاً، نجح ترامب، عبر حزمة محفزاتٍ لا تخلو من وعيد، في إقناعها بالإبقاء على منشآتها، وبالتالي الحفاظ على آلاف الوظائف الأميركية. حدث الأمر نفسه، بعد تسلم ترامب الرئاسة، مع شركتي بوينغ لصناعة الطائرات و"لوكيد مارتن" المصنعة للطائرات الحربية الأميركية، حيث نجح في إلزامهما بتغيير شروط التعاقد مع الحكومة الأميركية، ووفر مليارات الدولارات. وعلى صعيد السياسة الخارجية، لم يتردّد ترامب في الضغط على أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) لرفع مساهماتهم المالية في الحلف. كما لم يتردّد في الانسحاب من اتفاقية باريس للتغيرات المناخية، أو من الاتفاقات التجارية الدولية، وكذلك من الاتفاق النووي مع إيران، وصولاً إلى إحداث حروبٍ تجاريةٍ مع الحلفاء الأميركيين، كما في فرضه تعرفة جمركية على واردات الصلب والألمنيوم، في الوقت الذي يحاول فيه التقارب مع روسيا، على الرغم من أن حملته الانتخابية الرئاسية تخضع لتحقيقات أميركية بشأن مزاعم تنسيق بينها وبين روسيا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
إذن، ليس ترامب رئيساً تقليدياً، وما كان لرئيسٍ قبله أن يغامر بكثيرٍ مما يغامر به اليوم، والسبب في ذلك أنه رئيس شَعْبَوِيٍّ، وهو لا يهتم كثيراً بنتائج استطلاعات الرأي، ولا حتى بحسابات مؤسسة الحكم التقليدية. كل ما يهمه رضا قاعدته الانتخابية، وهي معه، ما دام يعبر عن مصالحها المتسقة مع شعاره الانتخابي الدعائي: "أميركا أولاً". غير ذلك لا يعني لترامب شيئاً، ولا حتى لأنصاره. لا هو ولا هم يهتمون لتصريحاته المهينة والمثيرة للاشمئزاز، كما ضد النساء أو السود أو المسلمين أو مخالفيه السياسيين. بل أظهرت بعض نتائج الانتخابات التمهيدية التي جرت في الحزب الجمهوري، في الأيام الأخيرة، أن بعض معارضيه ومنتقديه خسروها لصالح من هم أكثر تأييداً لترامب، ضد من انتقدوا بعض تصريحاته الجنسية البذيئة، خصوصاً ضد النساء.
على الجانب الكوري الشمالي، ليس كيم مقيداً بحسابات مؤسسة حكم، ولا هو يخضع لأحد في نظامه. هو يحكم بسلطةٍ مطلقة، لا يكف يده شيء، اللهم إلا مراعاة بعض التوازنات داخل نظامه، والتي يمكن له تعديلها أو قلبها لو أراد. ولأن كيم ليس انتحارياً، فإنه لا يريد صداماً عسكرياً نووياً مع الولايات المتحدة. هو يدرك حدود قوة بلاده، والتفوق الأميركي الساحق، ولكنه، كما ترامب، بارعٌ في لعبة حواف الهواية، وإن حشر في زاويةٍ ضيقةٍ لا مخرج منها، فقد يتبنّى خيار الانتحار، ولكن ليس وحيداً، إذ قد يجر معه العالم إلى حربٍ نوويةٍ كارثية.
باختصار، لا يمكن استبعاد نظرية صانع القرار في سياق المفاوضات بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية اليوم، من دون أن يعني ذلك اختزال المشهد كله في شخصيتين نزقتين. المشكلة هنا أن نزق ترامب وكيم هو أكبر تهديد لفرص التوصل إلى اتفاقٍ بين بلديهما، يضمن تفكيك ترسانة بيونغ يانغ النووية في مقابل ضمانات أميركية أمنية جوهرية لنظامها وفك عزلته. يظن ترامب أنه يفهم كل شيء، وبالتالي ليس بحاجة إلى إعداد للتفاوض، وهذا ما عكسه فعلاً الإعلان المشترك الذي صدر عن قمته مع كيم، فكل ما انتقده في الاتفاق النووي مع إيران الذي هَنَدَسَتْهُ إدارة سلفه أوباما، وقع هو في أكثر منه. مثلاً، لم يشر الإعلان المشترك، من قريب ولا بعيد، إلى صواريخ كوريا الشمالية الباليستية. دع عنك أنه لم يضع آليات رقابةٍ صارمةٍ على التحقق من التزام كوريا الشمالية بتفكيك ترسانتها النووية كلياً. قد يتم ذلك في مفاوضات مسؤولي البلدين القادمة، ولكن إن عجزوا عن تحقيق ذلك، وإنْ لم يتفقوا على مفهوم "نزع السلاح النووي بالكامل من شبه الجزيرة الكورية"، فإن المنطقة، بل والعالم، قد يكونان على موعدٍ مع حربٍ نووية، فكلا زعيمي البلدين قادران على اتخاذ قرارات كارثية.