قلب الفلسطيني

01 أكتوبر 2015
+ الخط -
ازدحم قسم أمراض القلب في مشفى رام الله، أول أيام عيد الأضحى، بمئات المصابين باضطرابات قلبية متنوعة. وبدا مشهد الرجال أقرب إلى السريالية، وهم على الكراسي، واضعين أيديهم على صدورهم، بانتظار الفحص، كأن عدوى غريبة أصابتهم. وعلّق ممرض مثقف أن المنظر يذكّره بفضاءات روايات ساراماغو. هي مذبحة مفاجئة غير مفهومة، زمناً وحجماً. ظن الذين وجدوا زواراً، أو موظفين وأطباء وممرضين، هناك في أروقة المشفى، أن الاحتلال هو الذي حاول، بوسائل جهنمية، إعطاب قلوب الفلسطينيين الذين يتمدّدون الآن على أسرّة المشفى، بعدد يبعث على الاستغراب. ردّ آخرون على هذا الظن بسخريةٍ، من عادة فلسطينية مضحكة أصبحت شهيرة، تحميل الاحتلال كل أذىً يحدث للفلسطيني. قالوا إن الفلسطيني يمكنه، أيضاً، أن يؤذي الفلسطيني، وليس الاحتلال فقط، وأن الطبيعة قد تنتقم من الفلسطيني، بحكم كونه بشراً عادياً، وليس ضحية مستمرة مفترضة، كما يعتقد بعضهم.
تقول إحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية إن فلسطينياً واحداً يُصاب باضطرابات قلبية كل أسبوع، وإن أمراض القلب في فلسطين تتزايد بشكل مخيف ومتسارع. وتورد الوزارة، في أحدث نشراتها، أن نمط الحياة الذي يجتاح العالم السبب الرئيس لتسارع معدلات مرض القلب. لم تذكر النشرة سبباً آخر لارتفاع هذا المعدل. لم تقل، مثلا، إن انعدام الأفق السياسي أمام قلب الفلسطيني يُساهم، بشكل كبير، في انفلات القلب من شرايينه. لم تقل إن قلب الفلسطيني مصنوع، أصلاً، من إرث إحباط طويل، أفقه الوحيد هو أفق الشهيد الذي غادر، وهو يلهج بالدفاع عنها وحمايتها من حقارات الاحتلال، أو الأسير الذي تتحدد أطره المكانية بمساحة (الفورة)، في السجن. ولا تسمح ذاكرة هذا القلب المؤثث بالإهانات اليومية والقهر والعجز برفاهية الاعتقاد بأن نصراً ساحقاً قادماً من أقاصي ليلنا، سيحط أمام بيوتنا ذات تحولات عميقة في العالم.
لم تقل نشرة وزارة الصحة إن تدهور حقوق الإنسان في فلسطين يقلق القلب الفلسطيني، ويحيّره ويخيفه، ويجعله يتخلى عن متانة شرايينه. لم تقل إن قلب الفلسطيني خاص جداً، مواصفاته وشروط بقائه وتفاصيل ذاكرته تختلف عن أي قلب في العالم. مثلاً، لم تعد شرايين قلب الفلسطيني تحتمل رؤية تضحيات جديدة، من دون أن يتأكد من أنها ستصب في خدمة الجدوى الثورية التي تحولت إلى محض شعار أو (كليشيه) ثوري، والتي طالما وقعت في مراياها الخادعة وأحبولاتها الكذابة قوى الضمير والخير والجمال في بلادنا المنكوبة بتاريخٍ ما زال يحرن، ويرفض التعديل والتساؤل والمراجعة. نعم، صار قلب الفلسطيني ذكياً.
يتوقف قلب الفلسطيني لأسباب عديدة، تشبه أسباب موت أي شخص، بالأمراض، وبالشيخوخة أيضاً، لكنه يموت أيضا بالاحتلال، نعم الاحتلال يقتل. حتى هذه اللحظة، أستغرب كيف تحمّل هذا القلب هول التهجير عام 48 عن الأرض والبيارة والبيت؟ هل تحمّل فعلاً كل هذه الكارثة؟ المصيبة أنه لا أعراض للإصابة بمرض الاحتلال، فحين يموت الفلسطيني بسرطان الرئة، يقول له الطبيب إن التدخين أحد أهم أسباب مرضك، لكنه لا يقول له إن الاحتلال أحد أهم أسباب مرضك. لا يُصنف الاحتلال في نشرات منظمة الصحة العالمية، وأنه أحد أسباب موت من هم محتلون. لا تعرف هذه المنظمة التي تتبع الأمم المتحدة التي ساهمت في كارثة احتلالنا، بشكل أو بآخر، أن الاحتلال يقتل، مثل السرطان وتصلب الشرايين والسكري.
لا يعرف الفلسطيني أن رؤيته صورة طفلةٍ تموت أمام الشاشة برصاص المحتل تُنقِص من عمره، وأن مشهد اقتحام الأقصى، كل يوم، يزيد في ترهل جلده وانكماش بصره وضعف عضلة قلبه. لا يعرف الفلسطيني أن إهانته من جندي محتل على حاجز عسكري تقضم من قلبه بضع نبضات.
الاحتلال يقتل. هو مرض كامل وخطير، أطالب منظمة الصحة العالمية باعتباره مرضاً خطيراً، وإعداد نشرات طبية للوقاية منه. لكن، هل تُراها، هذه المنظمة، تعرف أن علاج مرض الاحتلال حرية الشعوب؟
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.