قطاع غزة يحتضر
لم تأت تصريحات وزير الخارجية الألماني، فرانك ولتر شتاينماير، بجديد، عندما وصف الأوضاع في قطاع غزة بـأنها "قاسية جدا، ولا يجوز أن تستمر أبدا"، على أساس أن "القطاع برميل بارود، ولا يجوز أن ينفجر". وجاءت تصريحات شتاينماير هذه بعد زيارته قطاع غزة بضع ساعات، الإثنين الماضي، غير أن شتاينماير، مثل غيره من السياسيين الغربيين، لم يملك الشجاعة الكافية ليتهم إسرائيل، أولاً، والنظام المصري، ثانياً، والسلطة الفلسطينية، ثالثاً، بالمسؤولية الكاملة عن خنق قطاع غزة، ونكب سكانه الذين يزيدون عن مليون وثمانمائة ألف نسمة. وكما يبدو من تصريحات الرجل، ما يعني الغرب أن لا ينفجر "برميل البارود" الذي يمثله القطاع، جراء الأوضاع الإنسانية المأساوية فيه. ومن ثمَّ، فهو يطالب بتخفيف الحصار الإجرامي المفروض عليه، منذ أكثر من ثماني سنوات، بشرط أن يكون "هناك يقين حقيقي (بأن غزة) لم تعد منصة لإطلاق الصواريخ"، وكأن هذه الصواريخ التي يتحدث عنها معزولة عن سياق الواقع الاحتلالي والإذلالي الذي يحياه الفلسطينيون بشكل عام.
نعم، قطاع غزة يحتضر، وهذا ليس من قبيل المبالغة، فحسب تقرير لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، صادر في أغسطس/آب 2012، فإنه لن يكون "صالحا للحياة" في عام 2020، إلا إذا اتخذت خطوات طارئة لتحسين مصادر مياهه، وطاقته، فضلا عن معالجة الاختلالات البنيوية في قطاعه الصحي، والإسكاني، والتعليمي.. إلخ. لاحظ أن التقرير الأممي الذي أطلق ذاك التحذير المدوّي كان قبل نحو ثلاثة أعوام، أي قبل العدوانين الإسرائيليين اللاحقين على القطاع، في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، ويوليو/تموز من عام 2014، بكل ما ترتب عليهما من مزيد من الضحايا البشرية، وتدمير واسع في البنية التحتية الهشة أصلا، فضلا عن مضاعفة التلوث الإشعاعي والكيماوي الذي تعاني منه أجواء القطاع وتربته ومصادر مائه الجوفية، جراء استخدام إسرائيل أسلحة محرمة دوليا، كالفسفور الأبيض، وغيره.
في الشهر الماضي، صدر تقريران دوليان صادمان عن الأوضاع الإنسانية الكارثية في قطاع غزة، الأول عن "أونروا"، والآخر عن "المرصد الأورومتوسطي"، وهو منظمة حقوقية أوروبية مقرها جنيف.
لخص تقرير "أونروا" الوضع في قطاع غزة بالقول إنه "لا زال يسوده الشقاء، والحرمان، والدمار، و(بأن) أي أمل في التغيير كان لا يزال باقيا لدى السكان في غزة بدأ في التضاؤل بسرعة". وحسب التقرير، إن ما يقارب 868.000 شخص في القطاع يتلقون معونات غذائية من المنظمة الدولية اليوم، وتفيد تقديرات بأن هذا الرقم سيرتفع إلى مليون، نهاية العام الجاري، مع ضرورة التذكير، هنا، مجددا، بأن عدد سكان قطاع غزة في حدود المليون وثمانمائة ألف نسمة، بمعنى أن أكثر من النصف سيحتاجون إلى مساعدات غذائية هذا العام. ويذكر التقرير أنه "حتى تاريخ 18 مايو/أيار 2015، استوثق مهندسو أونروا من أن 137.661 منزلا للاجئين فلسطينيين تأثرت خلال الأعمال العدائية الصيف الماضي. وحتى هذا التاريخ، تم اعتبار 9.161 منزلا مهدما بشكل كامل، وأن 4.939 منزلا أصيبت بأضرار شديدة، و3.701 بأضرار بالغة، و119.860 بأضرار جزئية. وبعد مرور نحو تسعة أشهر منذ إعلان وقف إطلاق النار، لم يتم إعادة بناء منزل واحد من التي دمرت كلياً في غزة. وحتى اللحظة، لم تستلم أونروا إلا لما يكفي لإعادة بناء 200 منزل من بين 9.161 منزلا للاجئين فلسطينيين، تم تقييمها مدمرة كليا".
الأدهى، حسب نتائج التقرير، ما يتعلق بإجهاض الجيل الفلسطيني القادم في القطاع، وتكفي الإشارة إلى ما يقوله التقرير عن أن "نسبة الأطفال المصنفين على أنهم من ذوي الإعاقة والملتحقين بمدارس أونروا ارتفعت من 3.2 % في العام الدراسي 2011 - 2012 إلى 3.68% للعام الدراسي 2013-2014، مقارنة بهدفٍ وُضع مسبقاً لعام 2013-2014 بأن تكون النسبة 2.30 %، حيث أنه وفي مدارس كثيرة، فإن أكثر من 50% من الطلاب في الصف الأول غير قادرين على الوصول إلى مستويي (منجز) أو (متقدم)، مما يعني أنهم غير قادرين على الاجتياز للصف الدراسي التالي من دون مساعدة". دع عنك، أصلا، عدد الشهداء والإصابات والإعاقات والأمراض النفسية والسلوكية في صفوف الأطفال الفلسطينيين في القطاع، جراء الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة.
أكد تقرير "المرصد الأورومتوسطي"، هو الآخر، الصورة السوداوية القاتمة للأوضاع الإنسانية والبئيسة في القطاع. فيشير، مثلا، إلى أنه، وبعد قرابة عشرة أشهر من عدوان الصيف الماضي، قدم مانحو إعمار غزة 17%، فقط، من مجموع تعهداتهم في مؤتمر إعادة إعمار غزة، المنعقد في القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والتي بلغت 5.4 مليارات دولار، مما من شأنه أن يطيل عملية إعادة إعمار القطاع، لتستغرق حوالى 23 عاماً إن استمرت الأوضاع على ما هي عليه. ونتيجة للحصار الإسرائيلي، وصل معدل البطالة في القطاع إلى حوالى 42.8% في الربع الأخير من عام 2014 (وحوالى 60% بين الشباب، حسب تقرير للبنك الدولي)، وتسببت القيود الإسرائيلية في توقف حوالى 90% من المشاريع في القطاع. أما القطاع الصحي، فقد ذكر التقرير أن غالبية المرضى لا يتلقون العلاج المناسب بسبب الحصار وقلة الإمكانات، ومع نهاية شهر يوليو/تموز 2013 كان نحو 27% (128 نوعا) من الأدوية قد انعدمت تماماً في مستشفيات قطاع غزة.
واستنادا إلى التقرير نفسه، فإن نحو 70% من سكان قطاع غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي أو سوئه، وكان حوالى 70% منهم يعتمدون على المساعدات الغذائية قبل العدوان الإسرائيلي صيف 2014. ولفت تقرير المرصد الأورومتوسطي إلى أن حوالى 95% من المياه في غزة لا تطابق معايير منظمة الصحة الدولية للمياه الصالحة للاستخدام، فضلا عن أزمات الوقود والكهرباء والزراعة وصيد الأسماك.. إلخ.
إذا أضفنا إلى كل ما سبق ما يذكره "المرصد الأورومتوسطي" أن السلطات المصرية أغلقت معبر رفح، وهو المعبر الوحيد لقطاع غزة الذي لا تسيطر عليه إسرائيل، فترة تقدر بحوالى 70% منذ فرض الحصار على القطاع، وإذا ما أخذنا بالاعتبار مباهاة النظام المصري بهدم أكثر من 99% من الأنفاق التي تربط القطاع بمصر، والتي تعتبر شريان الحياة الحقيقي لغزة، حينها يمكن أن نتصور حجم الفاجعة التي يحياها سكان القطاع.
كان الأمل أن تضطلع "حكومة التوافق" الفلسطيني بدورها لانتشال مواطني القطاع من بؤسهم، غير أنها أبت إلا أن ترتهن إلى الحسابات الحزبية والمناكفات السياسية التي يتقنها قادة السلطة الفلسطينية في رام الله. فهذا محمود عباس، والذي يفترض أنه "رئيس فلسطين"، لا يَكلُّ ولا يَملُّ أبداً من تحريض نظام الانقلاب في مصر على قطاع غزة (وكأن الأخير بحاجة إلى تحريض أصلا)، وفي ذلك، يساهم في تسريع احتضار غزة كلها، من حيث أنه يريد أن يخنق حماس.