قضية مصرية ملحّة
بين سيل القضايا التي تفرّق المجتمعات العربية ولا تجمعها على شيء، وفي قلبها الساحة المصرية الزاخرة بقضايا تتناسب مع عدد سكانها (تجاوز مائة مليون نَسَمة) قضايا تنقسم حولها النخب قبل العامة، وتبين في كل مرة تبزغ إلى سطح النقاشات الحادّة، حجمَ الهُوة التي تعاني منها مجتمعاتنا بين التحضّر الغائب والتخلّف البائن الحاضر في كل "المعارك" في المجال العام الافتراضي (أو البديل) على قضايا خلافية. لم تعد قضايا السياسة التي تتعلق بمقاومة الاستبداد حاضرة كما الماضي القريب، بعد أن أقفل الاستبداد نفسه كل المجالات العامة الواقعية، وكذلك الافتراضية، وحصر الأحاديث والنقاشات في قضايا لا تمسّ وجوده، وإلا فالقمع حاضر لكل من يجرؤ على إثارةٍ قد تمسّ وجود الاستبداد من قريب أو بعيد. ضيّقت سلطوية النظام الحاكم في مصر الخناق على النقاشات السياسية بكل الطرق والوسائل والأشكال، وأبعدتها عن الواقع الملموس، وحاصرتها على المجال العام الافتراضي بأدوات المراقبة والملاحقة والقمع. كذلك فإن النقاشات التي من المفترض ألا تتوقف في مجتمعات تمر بتحولاتٍ عديدة، ذهبت إلى مواضيع تغذي من تجذّر الاستبداد في مجتمعاتنا، وبعدت عن قضايا قد تقض مضاجعه إلى قضايا هامشية لا تُربِح أحداً إلا أركان نظام الاستبداد التي تعمل بلا كلل أو مضض، لتثبت أركانها وتحقق مآربها الاستبدادية.
الكارثة لا تُفرّق بين أحد وآخر، هناك قضية إنسانية أخلاقية، اسمها قضية المعتقلين السياسيين في مصر
وفي وسط زحام "التريندات"، توفي الصحافي المصري محمد منير في 13 يوليو/ تموز الجاري، متأثراً بإصابته بفيروس كورونا في سجن طرة الذي قضى فيه أسبوعين بتهم سياسية تتعلّق بحرية الرأي، لم تلق قضية وفاته غير واجب العزاء، وتذكّر المواقف الثورية والأخلاقية والمبدئية للرجل الذي مات واقفًا، ولم يداهن أو يبع قلمه. بعد ذلك راحت النخب والنشطاء والسياسيون إلى قضايا أخرى، غير المعتقلين السياسيين، القضية المصرية التي لا يختلف أحد على إنسانيتها وبُعدها الأخلاقي، وتطلبها اصطفافاً سياسياً حقيقياً، لا الاصطفاف الذي يطالب به بعضهم خلف عبد الفتاح السيسي! ولا يرى عاقل في قضية المعتقلين السياسيين أنها قضية غير عاجلة، أو أنها مجرّد أزمة عابرة، بل هي القضية الوحيدة التي يمكن لمعارضي نظام السيسي أن يحققوا فيها شيئًا من الممكن، لأنها ببساطة الورقة الوحيدة التي يُلاعب بها النظام المجتمع السياسي المصري على اختلاف أطيافه.
يزيد القضية خطورة تقرير نشرته منظمة هيومن رايتس ووتش في 20 يوليو/ تموز، بعنوان "مصر .. تفشٍ محتمل لفيروس كورونا في السجون"، ويتضمّن معلومات مرعبة عن وفاة 14 معتقلاً سياسياً وُثّقت حالاتهم داخل عشرة مراكز احتجاز (تتنوّع بين السجون العمومية ومراكز وأقسام الشرطة ومعسكرات الأمن المركزي) حتى 15 يوليو/ تموز، وبيّن التقرير (10 صفحات) حالة التكديس المتعمّد وسياسة الإهمال الطبي التي تتبعها السلطات المتحكّمة في السجون المصرية.
سيل من المطالبات والمناشدات من منظمات حقوقية وحكومات ترجو السيسي أن يتحسّس إنسانيته، ويطلق سراح المعتقلين، ولكن من دون أدنى جدوى
وكانت منظمة "كوميتي فور جستس" في جنيف قد أصدرت تقريراً يوثق أكثر من 190 إصابة بفيروس كورونا داخل 12 سجناً، و29 مركز وقسم شرطة، بمن فيهم 160 معتقلاً، و30 من موظفي الأمن وعناصره، وذلك في أربع محافظات مصرية فقط جاءت عليها معلومات التقرير. ومن قبل، في إبريل/ نيسان الماضي، كان المتحدث باسم مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان في جنيف، روبرت كولفيل، قد أصدر بياناً يُطالب فيه السلطات المصرية باتخاذ إجراءاتٍ تقضي بخروج أكبر عدد ممكن من غير المدانين والمحبوسين احتياطياً، حتى لا تحدث الكارثة، ويتفشّى الوباء داخل السجون المصرية.
سيل من المطالبات والمناشدات من منظمات حقوقية وحكومات ترجو السيسي أن يتحسّس إنسانيته، ويطلق سراح المعتقلين، ولكن من دون أدنى جدوى، يزيد في قمعه ما يشاء، طالما هو مدعوم من حكومات إقليمية، تخشى أن تُحكم مصرُ بالديمقراطية، أو أن يعود لها دورها الإقليمي الذي بدأ في التقزيم منذ سبع سنين، حتى عجزت عن تحديد أولوياتها الخارجية بنفسها.
طالما بقي السيسي الحاكم الفرد الذي لا ينازعه في سلطانه أحد، لن يفرج عن أحد من المعتقلين السياسيين الذين ينازعون الموت
وطالما بقي السيسي الحاكم الفرد الذي لا ينازعه في سلطانه أحد، ولا يرى أو يقرّ أحد شيئاً إلا طبيب الفلاسفة ومحارب الإرهاب ومجدّد الخطابات، كما يرى في نفسه، لن يفرج عن أحد من المعتقلين السياسيين الذين ينازعون الموت، ليس فقط بسبب وباء كورونا، بل لأسباب أخرى، كالقمع والتعذيب والإهمال الطبي المعتمد سياسةً جارية في أروقة السجون وأماكن الاحتجاز. ومن قبلُ كانت "كوميتي فور جستس" قد وثّقت بين 30 يونيو/ حزيران 2013 و30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، أكثر من 958 حالة وفاة داخل أماكن الاحتجاز في مصر، بسبب التعذيب أو الإهمال الطبي، لم يضم إليهم الصحافي محمد منير أو الـ14 معتقلاً الآخرين الذين قضوا بكورونا في العام الحالي (2020)، داخل السجون وأماكن الاحتجاز التي مُنعت عنها الزيارات بشكل رسمي، منذ 30 مارس/ آذار 2020، وهي كذلك ممنوعة عن بعض المعتقلين، خصوصاً في سجن العقرب، منذ سنوات. ازدادت وتيرة القمع، كي لا يتم تسريب أخبار الإهمال الطبي وإصابة المعتقلين بالوباء، فأقدمت إدارة السجون على زيادة القمع واستخدام أساليب جديدة تتمادى فيه، كالتغريب (النقل إلى سجن بعيد بدون الحاجات الأساسية للمعتقل)، أو التجريد (سرقة المتعلقات الأساسية للمعتقل وحرقها في بعض الأحيان أمامه) أو التأديب (الوضع في الزنازين الانفرادية مع تحديد كمية قليلة من الطعام لا تكفي الإنسان، وفي ظروف موحشة).
أمام هذه الحالة، وهي جزء بيّن من كلٍّ غيبته ظلمات السجون، وبعد أن امتدّ النسيج السياسي للمعتقلين، ليشمل الإسلامي والعلماني، وحتى من ساندوا عبد الفتاح السيسي في انقلابه يوماً، تكون فرصة التركيز على قضية إخراج المعتقلين السياسيين من السجون قضيةً لا يختلف عليها عاقل، فالكل مكلوم، ووباء كورونا لن يفرّق بين الأجساد وفق هويات أصحابها أو انتماءاتهم أو آرائهم أو تحيّزاتهم، سيصيب من يطاوله من المعتقلين الذين يرْجون فرصة واحدة للخروج من غياهب السجون المصرية إلى رحابة الحياة خارجها. أمام الساسة والنخب والصحافيين والباحثين وكل مهتم بالشأن العام فرصة للنضال بعقلانية، من أجل قضيةٍ عادلةٍ لا يتبارى فيها اثنان بلا طائل، أو ينتقي فيها بعضهم من يشبهه في توجهه الأيديولوجي فقط، فالكارثة لا تُفرّق بين أحد وآخر، هناك قضية إنسانية أخلاقية، اسمها قضية المعتقلين السياسيين في مصر.