وعلى الرغم من قيام الصحافة السعودية وكبار الصحافيين السعوديين المدعومين من قبل النظام الحاكم والذين يمثّلون وجهة نظره، ومنهم الصحافي المقيم في لندن عضوان الأحمري، بالإشارة إلى أن ما حدث كان مجرد خلاف بين فتاة سعودية وعائلتها، وأن السلطات لا تتدخّل في المشاكل العائلية، فإن السعوديين يعلمون جيداً أن حادثة رهف القنون مثّلت ضربة سياسية جديدة وجّهتها كندا والمنظمات الدولية لبن سلمان وحقبته.
خسارة دولية جديدة
وكان إعلان رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو قبول بلاده استضافة الفتاة رهف القنون ومنحها اللجوء الإنساني أمام جمع من الصحافيين، وما تلاه من استقبال وزيرة الخارجية الكندية كريستيا فريلاند للفتاة السعودية في المطار واحتضانها أمام شاشات الكاميرات، بمثابة ضربة وجّهتها الحكومة الكندية لنظام بن سلمان بعد أشهر من توتر العلاقات بين البلدين وإعلان السعودية حرباً دبلوماسية واقتصادية على كندا.
وكانت السعودية قد طردت السفير الكندي لديها واستدعت سفيرها في أغسطس/آب من العام الماضي، كما قطعت العلاقات التجارية والاستثمارية مع أوتاوا واستدعت آلاف الطلبة الذين ابتعثتهم للدراسة هناك، وخيّرتهم بين الرجوع إلى السعودية أو اختيار بلد آخر للدراسة، على خلفية مطالبة كندا بالإفراج الفوري عن معتقلي ومعتقلات الرأي في السجون السعودية.
وبسبب اتخاذ السلطات السعودية إجراءات مشددة وعنيفة تجاه كندا قبل أشهر، وقطع أي صلة معها، فإن السعودية اليوم تقف عاجزة عن الرد على خطوة كندا باستضافة المزيد من اللاجئين السياسيين والإنسانيين الهاربين منها، وتحويل أوتاوا إلى عاصمة للمعارضين السعوديين وإحراجها أمام المجتمع الدولي وتدمير سمعة بن سلمان التي يحاول بناءها كأمير ليبرالي منفتح.
وأعادت قضية القنون وهروبها من السعودية، فتح ملفات اعتقال الناشطات النسويات في السعودية من جديد، وكتبت صحف عالمية، وأبرزها "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز"، عدة تقارير عن تورط مسؤولين سعوديين في تعذيب الناشطات الحقوقيات، ومن بينهن لجين الهذلول وعزيزة اليوسف، والتحرش بهن في السجن. قبل أن تفجر علياء الهذلول شقيقة لجين مفاجأة كبيرة بكتابتها مقالاً في "نيويورك تايمز" أكدت فيه تورط المستشار السابق في الديوان الملكي سعود القحطاني بتعذيب شقيقتها لجين ومشاهدته لستة من رجاله وهم يقومون بالتحرش بها وإجبارها على الأكل وتهديدها بالقتل وإلقاء جثتها في مياه الصرف الصحي.
خسارة داخلية
قضية رهف القنون لم تتسبّب فقط في فقدان بن سلمان ما تبقى من صورته كأمير ليبرالي منفتح أمام العالم، بل أدت أيضاً إلى فقدانه ثقة قطاعات عريضة من الشعب السعودي، فالمحافظون السعوديون الذين عارضوا بعض توجّهات بن سلمان الانفتاحية، ومنها افتتاح هيئات الترفيه وجلب مئات الفنانين حول العالم بمئات الملايين، طالبوا بإنفاق هذه المبالغ على التعليم والصحة ودعم السلع الأساسية ومنها الوقود وتوفير وظائف للشباب الذين يعانون البطالة. الاتهامات التي وجّهها المحافظون الذين يتعاطف الكثير منهم مع معتقلي "الصحوة" كانت تدور حول تسبّب سياسات بن سلمان بهروب الفتيات وتحوّل مسلسل الهروب هذا إلى دعاية سياسية تستخدمها الدول المضادة للسعودية في المنطقة وخارجها.
وعلى النقيض، فإن خسارة بن سلمان للتيار المحافظ العريض، لم تؤد إلى كسبه ود الليبراليين أو التيارات النسوية، على الرغم من قيامه بإصلاحات في أوضاع المرأة في البلاد بعد سماحه بقيادة المرأة للسيارة. لكن حملات الاعتقال التي شنّها ضد الناشطات النسويات بتهمة الخيانة بعد التواصل مع المنظمات الأجنبية، أدت إلى كسبه عداء التيار النسوي حول العالم.
وتمثّل سياسة بن سلمان في التعامل مع قضية الناشطات النسويات واعتقالهن، بالإضافة إلى الآثار المترتبة على هذه الاعتقالات، العقلية التي تدار بها البلاد، إذ يجد بن سلمان نفسه بعد سنة ونصف من توليه منصب ولاية العهد بعد عزله ابن عمه محمد بن نايف، من دون أي تيار حليف أو صديق خارج البلاد، إذ قام باستعداء تيارات "الصحوة" والليبرالية والنسوية، بالإضافة إلى كراهية شعبية نتيجة الإجراءات الاقتصادية الصارمة التي اتخذها، وترسيخ صورته كرجل "دموي" عقب ظهور تفاصيل قضية قتل الإعلامي جمال خاشقجي إلى العلن، واعتراف السلطات السعودية بها بعد أسابيع من عمليات النفي المتواصل في الإعلامين الرسمي والخاص. بالإضافة إلى أن حصاره لقطر وتورطه في حرب دموية خاسرة في اليمن، وخروجه من الملف السوري من دون أي أرباح تذكر، كلها عوامل عززت صورته بين شعبه كرجل يقود بلاده إلى الهاوية.