قليلة هي الأعمال السينمائية الروائية التي تتحدّث عن تجربة الأسر بالمقارنة مع الأعمال الأدبية أو السينمائية الوثائقية، وبالمقارنة مع حجم الألم الواقع على ما يقرب من مليون فلسطيني، خاضوا هذه التجربة خلال سنوات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
قبل عامين، شاهدنا فيلم "عمر" للمخرج هاني أبو أسعد، كشف في بعض مشاهده بعض عوالم ما يُعرف بـ"غرف العصافير"، وعرض أصنافاً من التعذيب الذي يتعرّض له الأسرى في سبيل كسر إنسانيتهم بتحويلهم إلى عملاء، لكن الأسر لم يكن ثيمة العمل الرئيسية.
أما "ستائر العتمة" (2015 - 71 دقيقة)، لمحمد فرحان الكرمي، فقد أخلص لموضوع الأسر في سجون الاحتلال وجعله موضوعه بالكامل، فهو منبثق عن رواية تحمل الاسم نفسه للأسير وليد الهودلي.
استخدم المخرج في "ستائر العتمة" تقنية الزمانين والمكانين المنفصلين والمتطابقين في آن. في الزمن الأول، نحن إزاء الشخصية المحورية في الفيلم (في دور حسين نخلة)، والتي تبدو كمعادل رمزي للوعي الوطني. إنه الأسير كبير السن الذي يحاول أن يكتب تجربته الطويلة في السجن من داخله، في استرجاع كامل لكل ما يتعرّض له الأسرى في الزمن الثاني (الحالي)، والذي تمثّله على الأرجح شخصية الروائي الهودلي.
في الزمن الثاني، يتحدّث الفيلم عن حكاية الأسير عامر ورفيقيه، وهم الذين نفّذوا عملية عسكرية قادت إلى اعتقالهم، حيث يقعون بين أيدي قوات الاحتلال التي تبدأ مشوار التحقيق معهم في سبيل انتزاع اعترافاتهم. يستعرض المخرج هنا مختلف طرائق التعذيب النفسي والجسدي التي يلجأ إليها المحقق الإسرائيلي، ويظهر لنا كيف يقف عامر حائط صدّ ضد مطالبهم، رافضاً الاعتراف بما يمتلك من إرادة تتحطّم أمامها كل الحيل والألاعيب، في حين يقع رفيقاه فريسة لها. يُفشِل عامر الكثير من مخططات المحققين، ويجعل منهم ألعوبته، ثم يحوّل تلك التجربة مع رفاقه إلى وسيلة توعية داخل السجن.
من جهة أخرى، بدا إخلاص سيناريو الفيلم للرواية مبالغاً فيه؛ فالكاتبة روان هديب، أخلصت للرواية من ناحية أن يكون الفيلم تعليمياً وتعبوياً، من دون مراعاة اختلاف المتفرّج عن القارئ. فبدا الفيلم وكأنه يحاول أن يقول كل شيء في الرواية وعلى لسان الأبطال.
لجأ المخرج الكرمي إلى اختيار ممثلين غير محترفين (ربما لاعتبارات مادية)، ما جعل بعض الممثلين يبدون مُلقَّنين بما يقومون به، وعاجزين عن منح المشاهدين تعابير حقيقية تدفع إلى لاندماج مع معاناتهم.
على المستوى التقني، كانت الإضاءة مطابقة للألوان العادية للأماكن أو أوقات تصويرها، في حين أنه كان يمكن أن تخالف ذلك، لتمنح المشاهد إحساساً عاماً بالسجن أو بالحالة التي يعيشها الأسير منتظراً داخل القاعات المغلقة والباردة. أما الكوادر/ اللقطات المختارة لتصوير المشاهد، فلم نلحظ فيها بحثاً سينمائياً. فعلى سبيل المثال، لم تعطِ لقطات "الكلوز أب" أو اللقطات العلوية إحساساً بالضيق والحصار.
يُضاف إلى ذلك، أن الفيلم بدأ بمشاهد شكّلت مقدّمة تأريخية كان في غنى عنها، حتى للجمهور الأجنبي، وهي مشاهد تتناسب مع فيلم وثائقي. وكانت المعلومات التي حملها صوت رخيم وحضرت في أكثر من مرة بهدف ربط مفاصل الفيلم بعضها ببعض، أعطت جرعات أكثر من التلقين والتعبئة والتأكيد على بعض الأمور التي كان على الدراما وحدها قول ذلك. ساهمت كل هذه العناصر في خسارة العمل فرصة أن يكون "سينمائياً"، وإن كان فيلماً.
صحيح أن الرواية قدّمت رؤية لمحاربة السجان وإجراءاته الهادفة لتدمير الأسير الفلسطيني، لكن ليس بالضرورة أن يكون الفيلم نسخة عن الرواية؟ كما أنه وجب مراعاة كون الفيلم أنتج في فترة غير التي كتبت بها الرواية.
مع ذلك، يمكن أن نستبشر خيراً بهذه البدايات التي يقف عليها "مركز بيت المقدس للأدب"، التي سبقتها بعض الأعمال المُدرجة تحت عنوان "دراما في خدمة أسرانا"، مثل مسرحية "النفق" التي تحدثت عن الأسرى المعزولين، وفيلم الرسوم المتحركة ثلاثي الأبعاد "مدافن الأحياء" الذي تناول قضية الإهمال الطبي في معتقلات الاحتلال.
لكن هذه البدايات، إذا كانت تريد أن تصل إلى نتائج حقيقية ومؤثرة، عليها أن تغرف من فن السينما وقواعده، وتتمكن من مقوّماته، وإلا سنكون أمام اجترار محاولات سابقة لم تحقق اختراقاً ولم تصل إلا إلى جمهور فلسطيني وعربي، هو أصلاً مؤمن بما تطرحه هذه الأفلام.
وما التصفيق الحار في بعض المشاهد المباشرة والخطابية أثناء العرض إلا تعبير عن مأزق حقيقي في فهم السينما ودورها في كيفية تحقيق فعلها في النفس البشرية. وإن عدّ القائمون على الفيلم ذلك نجاحاً، فإننا نطالبهم أن يعيدوا حساباتهم. فلم يعد يشفع، منذ زمن، للفيلم السينمائي الفلسطيني القضية التي يحملها فقط.
أخيراً، يبقى السؤال: هل كان للفيلم أن يظهر أفضل ممّا ظهر عليه في ضوء الملاحظات السابقة؟ ربما لا، في ظل الخبرات والميزانية والتجربة والثقافة السينمائية، لكنها محاولة تستحق النقد أولاً، بمقدار الدعم والتأييد تماماً.
اقرأ أيضاً نساء سنوات الرصاص: جوسلين نصف سماء اللعبي