قصصنا... جردة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة

03 ديسمبر 2017
السير على الطرقات تجربة خطيرة (ساول لويب/ فرانس برس)
+ الخط -
تكتب الناشطة آمال شريف شهادتها في مناسبة "اليوم الدولي للأشخاص ذوي الإعاقة" انطلاقاً من الحقوق الغائبة عن هؤلاء الأشخاص في لبنان في كلّ المجالات، وهي نفسها منهم

في بلد الإحباط واليأس لا شيء يدعو للتفاؤل والمضيّ قدماً. كلّ شيء في تراجع. أعباء كثيرة تثقل كاهلي وتضغط عكّازيّ عميقاً في الأرض. لست الوحيدة التي تعاني من حالة اليأس، فكثر ممّن أعرفهم يعانون الشيء نفسه، معظمهم من الأشخاص ذوي الإعاقة. هي المرة الأولى التي أشعر بالإحباط والندم لبقائي في بلد لم يقدم لنا الكثير، فيما نحن قدّمنا وما زلنا نقدم الكثير.

في مناسبة "اليوم الدولي للأشخاص ذوي الإعاقة" الذي يصادف اليوم الأحد بالذات، لن أتمنى على الدولة ومؤسساتها والقائمين على أمورنا العمل على تطبيق القوانين أو مطالبة الوزراء بإصدار المراسيم التنفيذية لتطبيق القانون 220/ 2000، ولن أتوجه إلى أحد من المسؤولين ومطالبته بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، ولن أطالب الجمعيات بالعمل على تقديم المزيد، ولن أطالب سكان المدينة باحترام حقوق الآخرين وترك المنحدرات حرة لتسهيل تنقلنا، ولن أطالب البلدية برفع العوائق من الطرقات وجعل الوصول الى كلّ الأماكن ميسّراً للجميع.

لن أطالب بأيّ شيء، بل سأسرد هنا تجربتي وتجارب وصلتني من أشخاص تربطني بهم صداقات، وبعضهم لا يربطني بهم شيء، والإعاقة وحدها تجمعنا. أنشط على مواقع التواصل الاجتماعي منذ عام 2007، وكمية الرسائل التي تصلني من أفراد يعانون من مشاكل كبيرة. يخبرونني بما يحصل معهم وما يتعلق بهم. زادت هذه الرسائل والشكاوى وحتى الفضفضة بعد ترشحي للانتخابات البلدية مع لائحة "بيروت مدينتي" عام 2016.

مدينتي بيروت التي أحب، والتي كلما تركتها وارتحلت عنها مراراً، أعود إليها صاغرةً مجدداً، لم تقدم لي شيئاً، والحياة فيها عبارة عن معركة يومية لسكانها، ويصعب الأمر في حالة الأشخاص ذوي الإعاقة. عندما نتحدث عن البنية التحتية في لبنان بشكل عام وبيروت بشكل خاص، فالحالة لا تبشر بكثير، والوضع في تراجع مستمر، والخدمة متدنية فضلاً عن غياب الوعي في كلّ القطاعات العامة والخاصة.

في شهر أغسطس/ آب الماضي اختبرت أسوأ تجربة في حياتي، السير بالكرسي المتحرك على الطريق وحدي بين السيارات. الانتقال من موقف سيارات في محيط "إسكوا" إلى شارع المصارف في وسط بيروت كان عملية محفوفة بالمخاطر إذ عرّضت حياتي للخطر، فعندما أعطيت إشارة أني سأعبر الطريق إلى الجهة المقابلة لم تتوقف السيارة خلفي، بل حاول سائقها أن يتجاوزني فيما أعبر. ولولا صراخي الذي ملأ المكان لكنت الآن ربما في عداد الأموات. الأرصفة كلّها مقفلة بعوائق إسمنتية وحديدية أجبرتني على السير بين السيارات والدراجات النارية. السائقون في لبنان لا يمتلكون الصبر ولا يعلمون معنى تسهيل مرور المشاة بل زاحمني بعضهم على أفضلية المرور، أنا التي أسير بين غابات سياراتهم بكرسيّ المتحرك.

"أصبح السير على الطرقات متعباً وشاقاً" يخبرني جاري المسنّ، ويتابع: "يا بنتي لم تعد هناك أرصفة، والناس جنّت... لم يعد لديهم بال طويل كما كان من قبل". هذه الصعوبات تتردد على مسمعي كثيراً. معظمهم يخبرني أنّ غالبية الأرصفة مصادرة أو ضيقة أو هناك عوائق تمنع استخدامها، مما يجبرهم على السير بين السيارات والدراجات النارية.

أما عن البلدية ودورها في تأمين السلامة العامة للمواطنين فمخزٍ. يبررون وجود العوائق بحجة المناطق الأمنية. هذه المناطق الأمنية التي تسدّ المنافذ وتصادر الأرصفة وتجبرنا على السير بين السيارات والدراجات النارية وتعريض حياتنا للخطر أصبحت كالنار في الهشيم. تتكاثر ولا صوت يعلو معترضاً.

أما المضحك المبكي فهو بحث الأشخاص ذوي الإعاقة عن عمل. كثر من أصدقائي ومعارفي يعملون جاهدين لتأمين عمل لصديق هو "عميد العاطلين من العمل في لبنان" منذ 6 سنوات. فقد يده اليمنى عندما كان في التاسعة خلال حرب التحرير (1989). كلّ ما يطلبه وظيفة تساعده على العيش الكريم وتأمين مستقبله، أصبح الآن في السابعة والثلاثين، ولم يعمل في وظيفة حقيقية حتى اليوم، ولسان حاله: "لا أطلب أن أكون مديراً عاماً بل موظفا عاديا أو إداريا".

أما رونا، وهي خريجة جامعية في اختصاص التسويق، ولديها شلل دماغي جزئي يعيق حركة رجليها، لكنّها منطلقة اللسان وذات مظهر جميل، فتخبرني أنّها سترضى بأيّ راتب طالما أنّ الوصول إلى العمل سهل، والراتب يغطي تكاليف مواصلاتها. هي لا تبحث عن منصب، وكلّ ما تريده وظيفة تسويق عبر الهاتف.

جان لديه شلل أطفال فيضع الأجهزة في ساقيه. هو متزوج ولديه عائلة، أحبّ أن يخرج مع عائلته الى مطعم لتناول الغداء، وعند وصوله إلى المكان تفاجأ بالدرج العالي. أخبرني أنّه لم يتعب نفسه وينزل من السيارة، بل عاد أدراجه مع عائلته للبحث عن مطعم يصل إليه من دون مشقة لإمضاء يوم ممتع أسوة ببقية العائلات في نهاية الأسبوع.

هذا غيض من فيض، لا يتسع المقال لسرد كلّ ما يصلني. الحديث يطول ويتشعّب عندما نتطرق الى الأشخاص ذوي الإعاقة في لبنان. هي لا تقتصر فقط على التوظيف والسلامة العامة وسهولة الوصول، بل تتعدى ذلك لتشمل كلّ القطاعات والمجالات.

الدولة لا تطبق القانون في مؤسساتها، ولا تلحظ توظيف الأشخاص ذوي الإعاقة كما أقر القانون بنسبة 3 في المائة، وغالبية المباني الحكومية لا تلتزم بالمعايير العالمية ولا تؤمّن حق الوصول للجميع.



في السنوات الأخيرة قررت توظيف خبرتي في مجال التصميم والتقنيات لإيجاد حلّ للمشاكل التي نعاني منها في بيروت ولبنان. وظفت معظم وقتي لإيجاد حلّ، ومنذ عام 2015 أكافح لإيجاد تمويل لتنفيذ المنصة الإلكترونية التي عملت وما زلت أعمل عليها وهي جاهزة للتنفيذ، لكنّها في حاجة إلى تمويل بسيط لتنطلق. ستتيح المنصة للمستخدمين إيجاد الأماكن المجهزة وغير المجهزة للأشخاص ذوي الإعاقة في مختلف القطاعات الخاصة والعامة. وستنشر الوعي بين المستخدمين، فضلاً عن تقديم الحلول لكلّ القطاعات التي تعاني من نقص في حق الوصول للجميع. هذا المشروع الحلم هو سبب ترشحي عام 2016، فحلمي هو أن أحوّل بيروت إلى مدينة نموذجية وصديقة لكلّ أفراد المجتمع.

ما زاد من قهري وحزني هو الجردة السريعة حول حجم الأموال التي أنفقت في بيروت خلال هذا العام، على مهرجانات ونشاطات ثقافية وغير ذلك مما سنكتشف. فقد جرى إنفاق ملايين الدولارات على حفلات ومهرجانات آنية لا تنتفع منها إلا قلة قليلة، أما عوام الناس الذين يبحثون عن أبسط التفاصيل للمضي قدماً في حياتهم اليومية فهم مغيّبون. لو جرى تخصيص مبالغ بسيطة لتمويل مشاريع تدعم حلّ المعضلات الأساسية في المدينة بعيداً عن المحسوبيات والواسطة لقدمت حلولاً كثيرة واستفاد معظم سكان المدينة منها.

نحن في بلد تصرف أموال طائلة فيه على مهرجانات ونشاطات آنية فيما إيجاد حلول عملية ودمج كلّ أفراد المجتمع وانخراطهم اليومي وحثهم على المشاركة والتفاعل في مجتمعاتهم ما زال بعيداً عن أفق المسؤولين. الأنانية تطغى على الجميع وحب التملّك والمنفعة الضيقة هو السائد.

اليوم، بتّ أفكر جدياً بالرحيل بعيداً، وهذه المرة إن رحلت فلن أعود. يكاد الأمل أن يكون معدماً في وطن الأرز.