قراءة في المعتقل

15 مايو 2017
منى حاطوم/ فلسطين
+ الخط -

في سجنه ظل عادل والسجناء يوزعون وقتهم بين الرياضة، والنحت، وجلسات الحوار، ومتابعة كل شأن طارئ. كانوا يبذلون جهداً هائلاً لخلق اختلاف بين الأيام، أما القراءة فهي من ضمن الطقوس والواجبات في ذات الوقت، كانت القراءة هواية قبل السجن لكنها هي هواية وواجب الآن في السجن، والقراءة كما يفهمونها تؤخذ قيمتها، مثل كل النفائس عبر سياقاتها المختلفة.

وقال أحد المعتقلين إن قراءته لأي نص فكري أو إبداعي داخل المعتقل، لها معان ودلالات مختلفة عن المعاني والدلالات لقراءة ذات النص من قبل ذات القارئ خارج المعتقل، فقد تكون بعض الجوانب مظللة هنا بينما ذاتها مضاءة هناك، وقد تنقلب الصورة، وقد تختفي بعض الجزئيات في موقع وتظهر في آخر، وقد تختلف القراءة الأولى عن الثانية لنفس العمل، وهذا ينطبق على سائر الأعمال الإبداعية، فأم كلثوم التي يسمعونها داخل المعتقل تختلف عن أم كلثوم التي كانوا يسمعونها خارج المعتقل، أي قبل الاعتقال.

والقراءة داخل المعتقل تدفعك إلى استنهاض كل ما لديك من مكنونات، واستشراف أزمنة بتفصيلاتها، واستخدام وتسخير طاقاتك في الاستدعاء والتحليل وصناعة الآفاق، وتحريك الجغرافيا ربما بالأصابع والأسئلة، والقراءة الجادة ليست مجرد عادة للاستمتاع وصناعة الجماليات وتهذيب ما يلزمه التهذيب، بل هي أيضا هيبة الذروة والتي تتكون بنيتها من كل ما هو خلاب، وهي رافد نضالي أيضاً.

إذن، ظل عادل يفتح قلبه لهذا العالم الرائع رغم المرارات والأوجاع، فيأخذ منه ما يشاء، ويمنحه ما يشاء، ويشعر بالقوة أمام كل الظواهر، فهو وبالقراءة يشعر أنه قادر على تسخير الظواهر وامتلاكها والاستئناس بها إن لزم الحال، ففي عام 1987 انسرب في دهاليز الكثير من الكتب وكان يحب التحرك ما بين النتاجات العالمية والعربية والفلسطينية، وكان يلتزم بالقراءة الناقدة، والمتذوقة، فتشابك مع كتاب "فلسطيني بلا هوية" لصلاح خلف، وبعض قصص ماجد أبو شرار، ولم يتردد في الدخول الى عالم الأدب القديم مثل الخنساء، والمتنبي، والجاحظ، والمعري...الخ.

وفي سنوات الانتفاضة الأولى، لا سيما 1989 زاد حنينه لساقية، واشتعلت الذكريات ورومانسياتها الجارفة، وبعد أن دخل السجناء من "الفورة" ذات يوم جلس يتذكر:

في اللقاء الأول مع ساقية، أحسسنا بأن الحياة قد فتحت ذراعيها لنا، وفي نهاية اللقاء، خرجت وحدها لكيلا يلحظها أحد، كنت أقرؤها على طريقتي وهي تمشي، وعندما وصلت الباب استدارت ورفعت أصابعها بمستوى أسفل الوجه، وكاد ظهر السبابة أن يلامس تلك الشفة السفلى التي لها غطرستها الأخاذة.

وفي نهاية اللقاء الثاني:
قامت ساقية، ثم مَسّدَت شعرها، وحملت حقيبتها البنيّة اللون وذلك الكتاب، وأعادت الكرسي لمكانه دون أن يسبب أي صوت أو إزعاج، ثم قالت برقة:
إلى اللقاء أيها الفتى...!

فرددتُ بنبرة شبيهة:
إلى اللقاء أيتها الفتاة الرائعة!

وبعد أن مشت خطوتين أو ثلاث خطوات انزلقت رزمة المفاتيح المشبوكة بميدالية خشبية من يدها، فانحنت لالتقاطها بحركة جعلت من تفاصيل الأنوثة سحراً يتلعثم أمامه الذين اختزلوا الرياح بمفرداتهم، وكأنها كانت تقول جازمة أن الجمال غير الأنوثة والأنوثة غير الجمال، وكلاهما يلتمعان في هذا الحاضر اللانهائي، وكأنها أيضاً كانت تشي فتقول لأساطين شعر الغزل بأنكم ما زلتم ومنذ آلاف السنوات تتهجون حروف السطر الأول، والسطر الأول فقط.


* شاعر فلسطيني، والمقتطف هنا من نص روائي قيد العمل

المساهمون