04 أكتوبر 2024
قراءات في حكم الأقلية
تتميز المجتمعات الديمقراطية الحديثة بسهولة الحراك الاجتماعي وإمكانيته، وهو الذي يقصد به إمكانية انتقال فرد أو أسرة أو مجموعة من طبقة إلى طبقة أخرى صعودا أو هبوطا، فالأصل أن الطبقة تتشكل من خلال الطبقة الموروثة، فالإنسان ينتمي لطبقة ما منذ ولادته. ومن الطبيعة البشرية أن يكون هناك طموح الانتقال إلى طبقة أعلى، وفي الدول التي فيها حكم للقانون وتكافؤ للفرص، يمكن الانتقال من طبقة اجتماعية إلى طبقة أعلى عن طريق التخطيط السليم والمثابرة. وفي الأنظمة السلطوية والشمولية والحكومات العائلية والملكية غير الدستورية، من الصعب الانتقال من طبقة إلى أخرى صعودا، فذلك يتطلب رضى من بيده الأمر، والذي يتطلب بدوره قدرا كبيرا من النفاق والتزلّف، ويتطلب كذلك الانتصار في صراعاتٍ عديدة غير أخلاقية. ولكن سهولة الحراك الاجتماعي من طبقة إلى أخرى أعلى يؤدّي إلى شعور بالرضا العام، فبالتعليم وتنمية القدرات، وبالجهد والمثابرة ضمن قواعد عادلة للمنافسة، يمكن الوصول إلى حياة أكثر رحابة. وهناك وسائل أيضا معتادة في الترقي والحراك الاجتماعي، مثل المصاهرة والزواج، أو محاكاة نمط معيشة طبقات أخرى أو الانضمام لجماعات أخرى تساعد على ذلك. ولكن لا ينبغي أن توجد طائفة أو طبقة منبوذة؛ فمع سلاسة الحراك الاجتماعي تقلّ مشاعر الاحتقان في المجتمعات المنفتحة والديمقراطية، وتقلّ الاضطرابات والثورات.
عكس المجتمعات الحديدية والمنغلقة، أو ذات الحكم السلطوي، والتي تسد أبواب الترقّي والحراك
الاجتماعي، بدعوى الحفاظ على القيم، أو الحفاظ على الدولة أو حماية الثوابت، فيكون الترقّي والانتقال من طبقة إلى أخرى صعودا مقصورا على أفراد العائلة أو الطبقة الحاكمة أو الطائفة أو الفئة أو المقرّبين منهم والموالين لهم والمرضيّ عنهم، ويتسبب انسداد سبل الحراك الاجتماعي وإمكانية الترقّي إلى تراكم الغضب والاحتقان والرغبة في تغيير تلك المنظومة، بحثا عن بعض العدالة.
أما مصطلح التدرّج الاجتماعي فيشير إلى تباين الأفراد في إطار المجتمع الواحد؛ استنادا إلى: الثروة، الأسرة، المهنة، المستوى التعليمي أو الثقافي، أو أسلوب المعيشة، وطبقا لبعض النظريات في علم اجتماع السياسة، وكذلك طبقا للتنظيرات المرتبطة بالليبرالية، يكون هناك مواقع يكون لها دور كبير أو أكثر أهمية في المجتمع ومواقع أخرى يكون لها دورٌ أقل أهمية. ولذلك يكون هناك توجه دوما إلى تمييز الفئات التي تؤدي أدوارا أكثر أهميةً، فهذه الأدوار تتطلب قدراتٍ أكبر وإمكانات متميزة لمن يشغلها، كما أنها تتطلب قدرا عاليا من التعليم أو التدريب، وتكون بعض الأدوار والمهام على قدر كبير من الخطورة، يتطلّب الحصول على بعض الامتيازات المادية أو المعنوية أو سلطة أو مكانة.
ومن هنا يأتي مصطلح الصفوة أو النخبة الذي له كذلك نظريات ودراسات عديدة، والمقصود بالصفوة هم الفئة التي لديها دور في قيادة المجتمع وتوجيهه، أو التي لديها دور في تحديد المعايير الاجتماعية، أو الفئات والأفراد المشاركون في صنع القرارات المصيرية للمجتمع، أو الفئات والأفراد الذين لديهم القدرة على تعبئة طاقات المجتمع وتحريكها نحو الأهداف والغايات العامة.
وهناك عدة نظريات تتناول موضوع النخبة؛ فمنها نظرية تقسم المجتمعات إلى طبقتين: السياسية الحاكمة التي تحتكر القوة السياسية، وتقوم بالوظائف المهمة، ولديها كل الامتيازات. والطبقة المحكومة التي تخضع دائما للطبقة الحاكمة. وهناك نظريات الصفوات المتعددة التي تزعم أن كل فئة فيها صفوتها الذين يشكلون صفوة أو نخبة المجتمع ككل. وتلجأ النخبة الحاكمة، منذ قديم الأزل، إلى احتكار مصادر القوة والسيطرة عليها، مثل الاقتصاد والجيش والدين ووسائل الإدارة، بالإضافة إلى الحفاظ على التماسك الداخلي، وضمان استمرار القدرة على السيطرة والحكم والحصول على الشرعية، عن طريق كسب رضاء الجماهير أو خداعهم أو استخدام الإكراه في حالة الضرورة.
الطبقة السياسية (الحاكمة) هي حقيقة في كل المجتمعات، حتى الديمقراطية منها، لكن ما يميز الصفوة في المجتمعات الديمقراطية عن غيرها استنادها إلى الإرادة العامة. وفي المجتمعات غير الديمقراطية يكون أعضاء النخب الجديدة من أبناء النخب القديمة. أما في المجتمعات الديمقراطية فتجدّد الطبقة الحاكمة بأفراد من الطبقة الدنيا المحكومة.
ويرى عالم الاجتماع موسكا (1858 - 1941) أن هناك قانونا في الطبيعة، يتحول وفقًا له
ممثلو الشعب من خدم إلى سادة، فإن كان ممثلو الشعب يعينون أو ينتخبون من أجل الدفاع عن مصالح المجتمع، فإنهم سرعان ما يتحولون إلى تبنّي مصالحهم الخاصة، مشكّلين أقلية مسيطرة. ويحدث التغيير عن طريق ظهور أقليةٍ غاضبةٍ موجهةٍ من داخل الطبقات الدنيا، أو أقلية موجهة من داخل الطبقة الحاكمة، فيؤدي ذلك إلى إحلال الصفوة القديمة بصفوةٍ حاكمةٍ جديدة، وتكون الجماهير هي وقود الغضب والأحداث المؤدية إلى الإحلال والاستبدال. وهناك ما يطلق عليه "القانون الحديدي للأوليغارشية"، وهي كلمة تعني حكم الأقلية، فيرى ميتشلز (1876 - 1936) أن لدى الإنسان ميلا طبيعيا إلى القبض على مقاليد السلطة، فما إن يحصل عليها حتى يسعى إلى تدعيم قدراته للإبقاء عليها. ويرى كذلك أن الديمقراطية الحقيقية غير قابلة للتحقق عمليًا؛ ففي كل ديمقراطية هناك أقلية تسيطر على عملية صنع السياسات العامة واتخاذ القرار. ولكن هذا لا ينفي أن الديمقراطية، على الرغم من ذلك، قادرة على الحد من النزعات الأوليغارشية، وكذلك الحرص على التربية الديمقراطية ونشر الحريات والتوسع في التعليم.
وهناك تفسيرات أخرى لنظرية الصفوة أو النخبة، مثل الاتجاه السيكولوجي الذي يرى أن هناك مجموعة من الخصائص الجسدية والنفسية والفكرية والأخلاقية التي تمكّن الإنسان من الارتقاء في الحياة الاجتماعية. وتتيح هذه الخصائص لأعضاء الصفوة نوعًا من التميز في مواجهة باقي
أعضاء المجتمع، وهناك نخبة حاكمة وأخرى غير حاكمة، يمكن أن يطلق عليها النخبة الجماعية، فيما تعدُّ أغلبية المجتمع لا تنتمي للنخبة أو الصفوة، نتيجة افتقاره لتلك المؤهلات والإمكانات.
ويرى باريتو (1848 - 1932) أن السلوك الإنساني يتسم باللاعقلانية واللامنطقية وعدم الرشد، ويقتصر الرشد على بعض المجالات المحدودة، مثل المجالات الاقتصادية ومجالات البحث العلمي. والإنسان يسعى دوما إلى تبرير تصرفاته غير المنطقية؛ لكي يبدو بصورة منطقية ومقبولة اجتماعيًا، ويستخدم لذلك تبريرات مقبولة، فأعضاء الصفوة عادة ما يسعون إلى تبرير سيطرتهم على باقي قطاعات المجتمع، أو الغالبية المحكومة (اللاصفوة)، عن طريق الاستناد إلى بعض الشعارات أو الأيديولوجيات والخطابات العاطفية، فالأقلية تحكم الأغلبية عن طريق القوة والإكراه أو الخديعة والدهاء.
وتحافظ النخبة الحاكمة على مكانتها عن طريق عدم إطلاع الجماهير على كيفية وصول الصفوة إلى الحكم، وعدم إطلاع المحكومين على آليات الحكم، وإبقاء المحكومين بعيدًا عن الصراعات الداخلية التي قد تنشأ بين أعضاء الصفوة وبعضهم، وكذلك يتم اللجوء إلى استقطاب العناصر المتفوقة من بين أبناء الطبقات الأدنى، فهذا يقلل من احتمال حدوث ثوراتٍ أو اضطرابات سياسية.
تفسّر تلك القراءات في مجال علم اجتماع السياسة أحداثا كثيرة مر ويمر بها عالمنا، لماذا تحوّل بعض دعاة التحرّر إلى جبابرة سفاحين؟ ولماذا يقاتل ضباط "يوليو" على امتيازاتهم بكل شراسة؟ ولماذا تمارس التنظيمات المعارضة ممارسات السلطة التي ثارت عليها وأزاحتها من السلطة؟ ولماذا تدافع الطبقات والعائلات الحاكمة عن السلطة بكل الوسائل غير المشروعة، حتى وإنْ أدى ذلك إلى خراب البلاد وإشعال الحروب الأهلية، والاستعانة بقوى خارجية ضد شعوبها؟
أما مصطلح التدرّج الاجتماعي فيشير إلى تباين الأفراد في إطار المجتمع الواحد؛ استنادا إلى: الثروة، الأسرة، المهنة، المستوى التعليمي أو الثقافي، أو أسلوب المعيشة، وطبقا لبعض النظريات في علم اجتماع السياسة، وكذلك طبقا للتنظيرات المرتبطة بالليبرالية، يكون هناك مواقع يكون لها دور كبير أو أكثر أهمية في المجتمع ومواقع أخرى يكون لها دورٌ أقل أهمية. ولذلك يكون هناك توجه دوما إلى تمييز الفئات التي تؤدي أدوارا أكثر أهميةً، فهذه الأدوار تتطلب قدراتٍ أكبر وإمكانات متميزة لمن يشغلها، كما أنها تتطلب قدرا عاليا من التعليم أو التدريب، وتكون بعض الأدوار والمهام على قدر كبير من الخطورة، يتطلّب الحصول على بعض الامتيازات المادية أو المعنوية أو سلطة أو مكانة.
ومن هنا يأتي مصطلح الصفوة أو النخبة الذي له كذلك نظريات ودراسات عديدة، والمقصود بالصفوة هم الفئة التي لديها دور في قيادة المجتمع وتوجيهه، أو التي لديها دور في تحديد المعايير الاجتماعية، أو الفئات والأفراد المشاركون في صنع القرارات المصيرية للمجتمع، أو الفئات والأفراد الذين لديهم القدرة على تعبئة طاقات المجتمع وتحريكها نحو الأهداف والغايات العامة.
وهناك عدة نظريات تتناول موضوع النخبة؛ فمنها نظرية تقسم المجتمعات إلى طبقتين: السياسية الحاكمة التي تحتكر القوة السياسية، وتقوم بالوظائف المهمة، ولديها كل الامتيازات. والطبقة المحكومة التي تخضع دائما للطبقة الحاكمة. وهناك نظريات الصفوات المتعددة التي تزعم أن كل فئة فيها صفوتها الذين يشكلون صفوة أو نخبة المجتمع ككل. وتلجأ النخبة الحاكمة، منذ قديم الأزل، إلى احتكار مصادر القوة والسيطرة عليها، مثل الاقتصاد والجيش والدين ووسائل الإدارة، بالإضافة إلى الحفاظ على التماسك الداخلي، وضمان استمرار القدرة على السيطرة والحكم والحصول على الشرعية، عن طريق كسب رضاء الجماهير أو خداعهم أو استخدام الإكراه في حالة الضرورة.
الطبقة السياسية (الحاكمة) هي حقيقة في كل المجتمعات، حتى الديمقراطية منها، لكن ما يميز الصفوة في المجتمعات الديمقراطية عن غيرها استنادها إلى الإرادة العامة. وفي المجتمعات غير الديمقراطية يكون أعضاء النخب الجديدة من أبناء النخب القديمة. أما في المجتمعات الديمقراطية فتجدّد الطبقة الحاكمة بأفراد من الطبقة الدنيا المحكومة.
ويرى عالم الاجتماع موسكا (1858 - 1941) أن هناك قانونا في الطبيعة، يتحول وفقًا له
وهناك تفسيرات أخرى لنظرية الصفوة أو النخبة، مثل الاتجاه السيكولوجي الذي يرى أن هناك مجموعة من الخصائص الجسدية والنفسية والفكرية والأخلاقية التي تمكّن الإنسان من الارتقاء في الحياة الاجتماعية. وتتيح هذه الخصائص لأعضاء الصفوة نوعًا من التميز في مواجهة باقي
ويرى باريتو (1848 - 1932) أن السلوك الإنساني يتسم باللاعقلانية واللامنطقية وعدم الرشد، ويقتصر الرشد على بعض المجالات المحدودة، مثل المجالات الاقتصادية ومجالات البحث العلمي. والإنسان يسعى دوما إلى تبرير تصرفاته غير المنطقية؛ لكي يبدو بصورة منطقية ومقبولة اجتماعيًا، ويستخدم لذلك تبريرات مقبولة، فأعضاء الصفوة عادة ما يسعون إلى تبرير سيطرتهم على باقي قطاعات المجتمع، أو الغالبية المحكومة (اللاصفوة)، عن طريق الاستناد إلى بعض الشعارات أو الأيديولوجيات والخطابات العاطفية، فالأقلية تحكم الأغلبية عن طريق القوة والإكراه أو الخديعة والدهاء.
وتحافظ النخبة الحاكمة على مكانتها عن طريق عدم إطلاع الجماهير على كيفية وصول الصفوة إلى الحكم، وعدم إطلاع المحكومين على آليات الحكم، وإبقاء المحكومين بعيدًا عن الصراعات الداخلية التي قد تنشأ بين أعضاء الصفوة وبعضهم، وكذلك يتم اللجوء إلى استقطاب العناصر المتفوقة من بين أبناء الطبقات الأدنى، فهذا يقلل من احتمال حدوث ثوراتٍ أو اضطرابات سياسية.
تفسّر تلك القراءات في مجال علم اجتماع السياسة أحداثا كثيرة مر ويمر بها عالمنا، لماذا تحوّل بعض دعاة التحرّر إلى جبابرة سفاحين؟ ولماذا يقاتل ضباط "يوليو" على امتيازاتهم بكل شراسة؟ ولماذا تمارس التنظيمات المعارضة ممارسات السلطة التي ثارت عليها وأزاحتها من السلطة؟ ولماذا تدافع الطبقات والعائلات الحاكمة عن السلطة بكل الوسائل غير المشروعة، حتى وإنْ أدى ذلك إلى خراب البلاد وإشعال الحروب الأهلية، والاستعانة بقوى خارجية ضد شعوبها؟