قدوة في التمييز

16 فبراير 2020
أحد قدوات التمييز المعاصرين (أندرو كاباليرو رينولدز/ فرانس برس)
+ الخط -

ربما يجد مؤلف ما مهرباً من الاتهام بالإساءة إلى صورة فئة معينة من المجتمع، إذا ما عثر على نموذج شائع يحظى بالتبجيل، وما زال حياً في الثقافة الشعبية، وإن كان تراثياً. بيت المتنبي "لا تشترِ العبدَ إلّا والعصا معه، إنّ العبيدَ لأنجاسٌ مناكيد" مثال على ذلك إذ يهجو رئيس الدولة الإخشيدية في مصر، كافور الإخشيدي. فالمتنبي من عظماء الشعر العربي، لكن لا بدّ من التنبه إلى أنّ قصته مع كافور حادثة معزولة وحالة خاصة وليست ظاهرة عامة، قبل الدخول في تحليل حقيقة ما حصل فعلاً بينهما والأسلوب التحقيري الذي لجأ فيه إلى التعميم مخاطباً ذلك الحاكم. مع ذلك، نجد أنّ كثيرين يعممون هذا الشاهد على العرق الأسود، فيحذرون من صفات سيئة يدّعون أنّها تتلبس أبناءه في قالب نمطي عنصري.

كذلك، فإنّ تسمية "العبيد" تستخدم بشكل عنصري حتى اليوم، إذ إنّ "كلّ أسود هو عبد" أكان مجهول الاسم أو مشهوراً كالرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، أو أمين عام الأمم المتحدة السابق كوفي عنان، أو عالم الفيزياء الفلكية نيل ديغراس تايسون، أو لاعب كرة القدم بيليه، أو حتى مقدمة البرامج أوبرا وينفري. وإذا انطلقنا من شاهد تراثي، فإنّ الشواهد المعاصرة حاضرة بقوة، سواء كانت في ثقافتنا العربية، في عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ونجومه، أو في الثقافات العالمية التي نحتك بها وتؤثر غالباً بنا، من دون أن تكون لنا القدرة على التأثير بها. الرئيس الأميركي دونالد ترامب مثلاً إذ يبرر استهداف سيادة الدول وسرقة ثرواتها وأراضيها كما في الجولان والقدس و"صفقة القرن" وصدّ الحق في اللجوء الإنساني، وكثير من الشواهد التي أثبتها في ولايته، يشكل قدوة تمييزية واضحة. وكلّ تمييز يؤدي إلى العزل، وكلّما كان قدوة التمييز أكثر تأثيراً كان تبرير ممارسي التمييز أقوى، وكان العزل أشدّ.




من الطفل إلى المرأة إلى الأجنبي إلى المختلف لوناً وعرقاً إلى ابن الدين الآخر والطائفة الأخرى وصولاً إلى الأشخاص ذوي الإعاقة وغيرهم من الفئات، يستمر التمييز كاشفاً عن تعامل فوقي تلقائي مع ضحيته. هو تمييز يطاول هذه الفئات، ويتمكن من إعادة إنتاج القيم نفسها بما يتناسب مع مظلة الثقافة التي تظلله، فهو رأسمال ثقافي له القدرة الكبيرة على استخدام العنف الرمزي في هذا السبيل، بحسب مفاهيم السوسيولوجي الفرنسي، بيار بورديو.

هكذا، يوفر اتخاذ قدوة تمييزية المظلة التبريرية اللازمة للناس لممارسة مزيد من التمييز، وفي الوقت عينه، يوفر للقدوة نفسه حاضنة جماهيرية تؤيد خطابه. أما نحن، فنقع ضحية لمثل هذا النسق، أو ننتظر، وليس لنا إلا تعزيز خطاب التعددية، في أقل تقدير.
المساهمون