لا يبدو أن الأيام المقبلة في بغداد ومدن عدة جنوبي البلاد ستكون مشابهة للهدوء الذي سادها عقب تفشي فيروس كورونا في العراق، إذ إن الاحتجاجات والتظاهرات عادت مجدداً إلى الساحات والشوارع الرئيسية، في مشهد يذكر بأوائل أيام انتفاضة أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، حيث يتجمع العشرات من الشباب بشكل عشوائي وغير مُنظم، ويدخلون في مواجهات مع قوات الأمن، ويرددون هتافات ضد الحكومة والأحزاب النافذة في البلاد، مطالبين بالخدمات وفرص العمل.
والأخطر في المشهد سقوط أول ضحايا من المتظاهرين في عهد حكومة مصطفى الكاظمي، خلال مواجهات مع قوات الأمن، ليل أمس الأول الأحد، في ظل مؤشرات على تنسيق بين المتظاهرين لتصعيد الحراك في الشارع، خصوصاً في ظل عدم وجود أي خيارات أو وعود يقدمها الكاظمي للمنتفضين، وهو الذي ورث أزمات كبيرة من الحكومات السابقة لم يستطع إيجاد حلول لها حتى اليوم.
تصعيد الاحتجاج جاء بسبب عدم وجود نيّة حقيقية من قبل حكومة الكاظمي لتنفيذ مطالب المتظاهرين
وفي ظل انهيار شبه تام في منظومة الطاقة الكهربائية في العراق، ومع ارتفاع قياسي في معدلات الحرارة بلغت قرابة الخمسين درجة مئوية، وإقرار وزارة العمل العراقية بشكل رسمي بارتفاع معدلات الفقر في البلاد إلى 34 في المائة، عازية ذلك إلى آثار جائحة كورونا والأزمة المالية وتراجع فرص العمل في البلاد، شهدت بغداد وذي قار والبصرة والمثنى، أمس الأول الأحد وأمس الإثنين، احتجاجات غير مألوفة منذ أشهر، شارك فيها العشرات من العراقيين، بينهم من يشارك للمرة الأولى، وفقاً لناشطين ومتظاهرين عراقيين تحدثوا لـ"العربي الجديد"، أعربوا عن خيبتم نتيجة عدم تغير شيء منذ عام وحتى الآن، بل زادت المشاكل أكثر في البلاد.
وبات أبو أحمد النحات (60 عاماً)، والشاب لطيف كمال، أول ضحايا التظاهرات العراقية في عهد حكومة الكاظمي، بعد ليلة مواجهات مع قوات الأمن العراقية قرب ساحة التحرير، وسط بغداد، أسفرت عن مقتل اثنين من المتظاهرين بنيران قوات الأمن، وجرح ما لا يقل عن 20 آخرين، أحدهم بحالة حرجة. وأكدت المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق سقوط قتيلين في ساحة التحرير، ليلة الأحد، خلال صِدامات مع قوات الأمن، متحدثة عن مؤشرات لعودة التظاهرات. وقال عضو مجلس أمناء المفوضية علي البياتي، في بيان، إن "فرق المفوضية تواصل رصدها للتظاهرات في بغداد وباقي المحافظات، وتُعبر عن قلقها وأسفها البالغ لسقوط شهداء ومصابين بين المتظاهرين والقوات الأمنية، نتيجة للمصادمات بين القوات الأمنية والمتظاهرين في ساحة التحرير مساء الأحد". وأضاف أن "هذه الاعتداءات تعد انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان ومعايير الأمم المتحدة لإنفاذ القانون، وتجاوزاً لحقوق التظاهر السلمي". وتابع البياتي أن "المفوضية تطالب الحكومة بتوفير الحلول السريعة والاستجابة لمطالب المتظاهرين السلميين في عموم محافظات العراق، لأن مؤشراتها الرصدية تشير إلى عودة التظاهرات الغاضبة في معظم محافظات العراق، إذا ما استمر تردي وضع الكهرباء".
ووفقاً لعضو تنسيقية التظاهرات في ساحة التحرير، وهو أحد المعتصمين، أحمد عباس، فإن تظاهرات ليلة الأحد "لم يتم التنسيق أو التحضير لها، بل إن الناس صارت تأتي فرادى منذ يومين بشكل عفوي للتعبير عن رفضها وغضبها من الحال المزري، فلا عمل ولا مصدر دخل ولا كهرباء ولا ماء، في ظل حرارة مرتفعة وحظر تجول ومستقبل مجهول". وأضاف، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه من غير المعلوم من أطلق النار على المتظاهرين "هل هم قوات الأمن أم طرف آخر محسوب على المليشيات؟ لكن الحكومة تتحمل المسؤولية، والكاظمي لم يف بوعده في حماية المتظاهرين".
اعترف مصدر في الحكومة العراقية بأن المتظاهرين لم يعودوا يقتنعون بأي وعود
وتؤكد المؤشرات على أن التظاهرات ستستعيد زخمها. ففي حين كان الحزب الشيوعي العراقي يستعد، أمس، لإصدار موقف بشأن تطورات اليومين الماضيين ومعاودة استخدام الرصاص الحي ضد المتظاهرين، مع ترجيح مصدرين فيه، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن يعطي الحزب الضوء الأخضر لأعضائه للمشاركة في التظاهرات، كان ناشطون يؤكدون التنسيق لتصعيد الحراك. وكشف الناشط المدني سجاد حسين، وهو أحد المعتصمين في ساحة التحرير منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لـ"العربي الجديد"، أن "المعتصمين في ساحة التحرير عقدوا اجتماعات خلال الساعات الماضية، وتواصلوا مع المعتصمين في المحافظات الأخرى لغرض التنسيق والتوحد في تصعيد الاحتجاجات، خلال المرحلة المقبلة. وقد تم الاتفاق بين معتصمي ومتظاهري بغداد على الاستمرار في تصعيد الاحتجاجات، كما كانت سابقاً، بسبب عدم جدية حكومة الكاظمي في تحقيق مطالب المتظاهرين، والتراجع الكبير في مستوى الخدمات، والانفلات الأمني الكبير". وقال إن "تصعيد الاحتجاج جاء بسبب عدم وجود نيّة حقيقية من قبل حكومة الكاظمي لتنفيذ مطالب المتظاهرين، وعلى رأسها محاسبة قتلة المتظاهرين وكشفهم، وكذلك إجراء الانتخابات المبكرة بشكل سريع". ولفت حسين إلى أن "المتظاهرين واجهوا عمليات القتل والقمع نفسها، التي تعرضوا لها في ظل حكومة (عادل) عبد المهدي، وهذا يدل على أن سياسة الحكومات متشابهة في مواجهة الشعب العراقي وإسكاته".
وتقابل التصعيد الجديد في الاحتجاجات وعود حكومية بفتح تحقيق بشأن القمع الذي تعرض له المتظاهرون، من دون الحديث عن مقتل المتظاهرين، بل إن المتحدث العسكري باسم الحكومة اكتفى بذكر عبارة إصابات. إلا أن بعثة الأمم المتحدة في بغداد دانت، في بيان لها، "الخسائر البشرية التي وقعت في ساحة التحرير ليلة الأحد"، مضيفة أن "العراقيين في وضع صعب وهم يواجهون تحديات عديدة "، مشددة على ضرورة حماية حق العراقيين في الاحتجاج السلمي دون قيدٍ أو شرط". بينما اعترف مصدر في الحكومة العراقية، لـ"العربي الجديد"، بأن الكاظمي لا يملك أي خيارات أو وعود يقدمها للشارع، ويدرك في الوقت ذاته أن المتظاهرين لم يعودوا يقتنعون بأي وعود، لافتاً إلى أن "الحكومة غير قادرة على تحسين الكهرباء، ولا معالجة ارتفاع الفقر ولا البطالة. وبلغة الأرقام، البلاد تتجه للمجهول اقتصادياً"، مضيفاً أن الكاظمي "ورث فساد وأخطاء الحكومات الست السابقة بكل تفاصيلها".
ولغاية الآن لا يُعرف موقف المليشيات والأحزاب التي وقفت ضد التظاهرات خلال حكومة عادل عبد المهدي، بل ودخل قسم منها على خط قمعها، إذ يُحتمل أن تحشد بعض تلك القوى ضد حكومة الكاظمي وتتخذ موقفاً مؤيداً للتظاهرات. من جهته، قال القيادي في ائتلاف "دولة القانون" سعد المطلبي، في اتصال هاتفي مع "العربي الجديد"، إن "عودة تصعيد الاحتجاج في العاصمة بغداد أو المحافظات الأخرى أمر طبيعي، خصوصاً أن المتظاهرين لم يلمسوا حتى الآن أي جدية حقيقية من حكومة مصطفى الكاظمي في تلبية مطالبهم، التي ينادون بها منذ أشهر". ولفت المطلبي إلى أن "هناك تراجعاً كبيراً في مستوى الخدمات، خصوصاً في ما يتعلق بالطاقة الكهربائية، وهذا الأمر سيفجر ثورة جديدة في عموم العراق. فهناك تراجع كبير في تأمين التيار الكهربائي للمواطنين، مع الارتفاع الكبير في درجات الحرارة". وأضاف "نتوقع بعد الأحداث الأخيرة في ساحة التحرير والطيران، يوم الأحد، أن تشهد الاحتجاجات في عموم البلاد تصعيداً جديداً، وليس على مستوى العاصمة بغداد فقط. وهذا التصعيد ربما يكون أكبر من التصعيد الذي حدث خلال ولاية حكومة عادل عبد المهدي، مع عدم توفير الخدمات، وممارسة العنف بحق المتظاهرين".
أما النائب باسم خشان فرأى، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "حكومة الكاظمي لا تختلف عن حكومة عبد المهدي في أسلوب مواجهة المتظاهرين السلميين، ودليل ذلك ما حصل من أعمال قتل وقمع بحق المحتجين في بغداد، ما يؤكد استمرار العمل الممنهج لقمع المتظاهرين". واعتبر أن "حديث حكومة الكاظمي عن إجراء تحقيق بما حصل في بغداد ليلة الأحد أمر مضحك فعلاً، فهي منذ أكثر من شهرين، فتحت تحقيقاً بأحداث تظاهرات أكتوبر الماضي، ولغاية الآن لم تعلن شيئاً، ولن تعلن أي شيء، كونها حكومة محاصصة، وحكومة أحزاب. وغالبية القتل والقمع بحق المتظاهرين يصدر بتعليمات وتوجيهات من قبل شخصيات وجهات سياسية وحزبية متنفذة". وأكد أن "استمرار القمع والقتل من قبل حكومة الكاظمي تجاه المتظاهرين، سيكرر مشهد إسقاط الحكومة العراقية من جديد، وعدم إجراء أي انتخابات مبكرة، مع وجود عدم جدية سياسية بإجراء هذه الانتخابات، وهذا ما لمسه المتظاهرون، ودفعهم إلى التصعيد من جديد، ضد حكومة المحاصصة والأحزاب".