قتل الأبرياء ووزر الموقف
لا يحتاج المرء إلى خيال واسع، كي يتصور حجم البؤس الذي يدفع معيلين لترك بلدهم، والكدح في ليبيا، من أجل لقمة العيش، حتى في الظروف السائدة فيها حاليا. ولكن، ليس من السهل تخيّل الدافع إلى قتلهم بطريقة وحشية، والتباهي بالفعلة الشنعاء بتصويرها.
في تاريخ الأنظمة العربية الحاكمة موبقات قتل وتعذيب ضد معارضيها من دون تصوير. وقد شهدت الثورة السورية، في بداياتها، تسجيلات بدائية، بالهواتف المحمولة، لما تقوم به قوات النظام من عمليات قتل وتعذيب، وعجز من يتلقى الضرب والإهانات، بما في ذلك الدوس بالنعال؛ وذلك بغية نشر الرعب والرهبة في قلوب المعارضين، بتصوير ما ينتظر كل من يقع في أيدي هذه القوات.
لم تكن إدانة عنف النظام لتأخذ بالاعتبار أي سلوك للمعارضة. فلا شيء في الدنيا يبرر مثل هذا العنف والإذلال ضد الجسد والنفس الإنسانييْن. هذا هو الحكم الأخلاقي الذي يعكس صحة المجتمعات، ومصداقية القوى السياسية في معارضتها الاستبداد. وهكذا يجب أن يكون الموقف من قتل واحد وعشرين عاملاً مصرياً، لأنهم بشر. الإدانة الأخلاقية الصافية لا يهمها "قدسية الدم المصري"، بل قدسية حياة البشر، ولا تأخذ بعين الاعتبار انتماء هؤلاء الديني أو العرقي أو غيره.
النظام الحاكم في مصر مجرم وقاتل بالجملة، هذا عدا ما تكشفه التسريبات، أخيراً، من رقاعة قياداته التي تحسب نفسها على فهلوية الذكور المتباهية المعروفة في مجتمعات الضباط. ولكن ذكر جرائم النظام في سياق إدانة الجريمة ينحو إلى تبريرها، والتخفف من عبء الإدانة القاطعة والواضحة من دون "ولكن". ويدّعي بعض المتحفظين على الإدانة القاطعة أن الشرح الذي يتلو "ولكن" هو للتفسير، وليس للتبرير، لكنّ خيطاً رفيعاً يفصل بينهما، وهو خيط يقطعه السياسي، حين يتحول إلى محلل أو مساجل مناكف، والدم يلطخ الشاشات كلها.
وما دام بعضهم يصر على التحليل، فعلينا أن نحلل أولاً، إن موبقات الأنظمة العربية الحالية والثورة المضادة كلها تتغطى، حالياً، بمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية مبرراً لوجودها. وهذا يزيد من فظاعة جرائمه، ولا يقلل منها. وثانياً، لا علاقة لنحر الأبرياء وتصوير الفعلة بطبيعة النظام الحاكم في مصر، أو بالوضع في ليبيا. فقد ارتكب التنظيم مثلها في أماكن عديدة وظروف مختلفة، في العراق وسورية. وهو يعلن ذلك بنفسه، إذ يتحدث عن قتل "عبدة الصليب" في كل مكان (وهو نعت غير إسلامي للمسيحيين، سكان البلاد الأصليين، الذين يتعامل معهم الإسلام الأول، الذين طالما تغنى به هؤلاء، كمؤمنين وأهل كتاب)، وهو لم يتوان عن قتل المسلمين على مذاهبهم المختلفة، وعانى من سكاكينه ومتفجراته السلفيون أنفسهم في سورية. فما علاقة ذلك بالنظام الحاكم في مصر؟ من الضروري إعمال العقل في فهم نشوء
التنظيم بعد احتلال العراق، على خلفية المركّب القبيح من الاحتلال الأميركي والنظام الطائفي. وقد نصل، أيضاً، بالتحليل إلى نتيجة مفادها تحميل الأوضاع العربية مسؤولية انضمام شباب من هوامش المجتمعات إليه، واتهام الثورة المضادة في مصر بالمسؤولية عن وصول شاب من طبقة ميسورة شهد قمع الانقلاب في مصر، أو إسلامي معتدل جرّب الديمقراطية، وشهد الانقلاب عليها، إلى هذا التنظيم.
هذا كله ممكن وجائز ومطلوب. ولكن، لا علاقة له بالموقف الأخلاقي الحاسم من الجريمة.
لقد تهاونت، في الماضي، قوى ثورية عربية مع مثل هذه الأعمال، فانتهت إلى أن وقعت ضحية لها. وأذكر، في بداية الثورة السورية، كيف كان الثوار يفضلون إنكار هذه العمليات عوض استنكارها، وتحمل وزر الموقف الأخلاقي. كان بعضهم ينسبها إلى مخابرات النظام، بدل الحزم في محاربة هذه الظواهر، انطلاقاً من الموقف الأخلاقي المعادي للاستبداد بأشكاله كافة، ووعياً وإدراكاً لجذورها في فكر بعض المعارضين وتوجهاتهم غير الديمقراطية. وقد أدى التهاون الثوري في فهم هذه الأفعال إلى تغوّل تنظيماتٍ لا تنتمي إلى الثورة السورية، ولا تتبنى مبادئها، وزاد في ذلك عنف النظام الهمجي غير المسبوق الذي سد أبواب النشاط المدني والكفاح المسلح المنتظم خلف أهداف الثورة.
ورئيس الحكومة الليبية المؤقتة يخطو على الطريق الكارثي ذاته، حين يتجنّب الإدانة القاطعة، بادعاء أن شريط قتل العمال المصريين مفبرك، اعتقاداً منه أنه بذلك يقوّض حجج النظام المصري في مهاجمة ليبيا، في حين أن الموقف الديمقراطي المؤهل لمعارضة الاستبداد هو إدانة القتل من دون تردد، ومعارضة التدخل المصري في الوقت عينه. فهذا القتل لا يبرر القصف المصري للمناطق الليبية المأهولة، والنيات المصرية تجاه ليبيا سابقة على جريمة القتل هذه.
ولا يعفي الإهمال المصري الرسمي لمصير العمال، بعد اختطافهم، القاتل من المسؤولية، بل يحمله مسؤولية أكبر ويضاعف جرمه. فعدم اكتراث النظام لمصيرهم يؤكد أنهم فقراء ومساكين، ولا علاقة للنظام بهم، وأن قتلهم لا يؤذي نظاماً، ولا يمسّ شعرة فيه. فهو باختصار لا يكترث. لقد أدى قتل صحافيِّيْن غربيين إلى تداعي ست وعشرين دولة لتشكيل ائتلاف لمحاربة التنظيم، أما قتل واحد وعشرين عاملاً مصرياً، فبالكاد أقنع كاميرات التلفزة بالوصول إلى أهاليهم في قرى الجنوب المصري الفقيرة، فضلا عن أن يعزي هؤلاء الأهالي زعماء وقادة.
أما قلب التنظيم جماليات فن التصوير إلى "قبائحيات" فليست جديدة، ولا مثيرة للإعجاب، إلا عند من يتمتع بقدر من مركبات النقص، ولا يتوقع مثل هذا من حركات دينية، يخيل له أنها بدائية. لقد تبنى التنظيم آليات التصوير الفاشية المعروفة منذ ثلاثينيات القرن الماضي. مع الفرق أن النازيين والفاشست الأوروبيين كانوا يصنعون آلات التصوير وأدوات القتل في مصانعهم. لقد رافقت موسيقى المارش، وعملقة النازيين وتقزيم ضحاياهم توثيقات جرائمهم بالتصوير المتحرك، قبل أن ينتشر التلفزيون بعقود. ما من جديد في مخاطبة الغرائز بجماليات الهول. وتبنت هوليوود بعض "إستتيكا" الأنظمة الشمولية ومؤثراتها في إنتاج المشهد (والعكس صحيح). لا جديد في هذا كله. الجديد في تجاوز جريمة القتل بالانجذاب إلى النقاش حول أدوات إنتاج المشهد المستوردة هذه. لقد رأيت من ذلك ما فرضته علينا نشرات الأخبار فقط، أما البقية فأرفض أن أراها، أو أشارك في ترويجها.