في خضمّ الحرب الأهلية اللبنانية، كان روتين الصباحات المدرسية في بيتنا على الشكل التالي: ينهض أبي وأمي وأمامهم مهمة عسيرة في إيقاظ أولادهم الخمسة من نومهم اللذيذ.
تحمل أمي الراديو الذي يتنقل خلال اليوم بين غرف المنزل، تدندن وتحضر الفطور، أبي يحلق ذقنه، ونحن نتحضر للمدرسة. هذا كله، قبل أن تدق الساعة السابعة لحظة الخشوع، إذ سيصمت الجميع، من عمالقة الفن إلى أصغرنا نحن الأولاد. وسيسمح لإبرة الراديو بقيادة المايسترو أبي وحدها بالرنين.
سننتقل من إذاعة لبنان إلى نشرة أخبار مونتي كارلو الدولية، أو بي بي سي لندن، تبعاً لنوعية تفجّر الأحداث في لبنان والمنطقة والعالم. الصمت لن يطول. فبعد الخبر الثالث، سيدخل والدانا في نقاش سياسي قد تتوافق فيه مصالحهما وقد تتعارض. فرغم الجنوح يساراً في منزلنا، إلاّ أنَّ أمي وجمال عبد الناصر لن يتركا أبي وأمميَّته بسلام.
نقاش قد ترتفع حدته والخاسر بينهما ينسحب وفقاً للتكتيك التالي: "ماشي الحال، خلينا نكفّي النشرة". أما إذا كانت الأخبار تدين "الإمبريالية العالمية "، فالتناغم السياسي سيشيع جواً شاعرياً قد يدفع بأحدنا إلى إعادة الاعتبار لإذاعة لبنان وأغانيها.
وحدث ذات صباح أنّ هز المنزل عصف انفجار ضخم. هرعنا إلى الشرفة نستطلع الدخان الأسود، أبي وأمي يقدّران مكان الانفجار وحجمه، وإخوتي الصغار يرقصون فرحاً: "ما في مدرسة.. ما في مدرسة". أسرعت أمي إلى المطبخ بعد أن شمّت رائحة الحريق. من شدة الانفجار، وقعت ركوة القهوة وانقلب الراديو مشوياً على الغاز. كان يُخرج من أحشائه عشرات الصراصير التي قتلها والدانا.
أخي الصغير الذي اعتلى كرسياً خشبياً لم يتوقف عن الصراخ والبكاء. احتضنته أمي، وهدّأ أبي من روعه، باعتقادهما أنّ صباحاً مثل هذا، ثقيل على طفل في الثالثة من عمره. فصرخ أخي: "ليس هذا السبب". استوعبنا ما كان يقوله بعد دقائق، مشيراً إلى مجزرة الصراصير: "انظروا ماذا فعلتم! قتلتم كل من في الراديو، مات المذيع والمذيعة، مات الفنانون! خرَّبتم كل شيء...".
تحمل أمي الراديو الذي يتنقل خلال اليوم بين غرف المنزل، تدندن وتحضر الفطور، أبي يحلق ذقنه، ونحن نتحضر للمدرسة. هذا كله، قبل أن تدق الساعة السابعة لحظة الخشوع، إذ سيصمت الجميع، من عمالقة الفن إلى أصغرنا نحن الأولاد. وسيسمح لإبرة الراديو بقيادة المايسترو أبي وحدها بالرنين.
سننتقل من إذاعة لبنان إلى نشرة أخبار مونتي كارلو الدولية، أو بي بي سي لندن، تبعاً لنوعية تفجّر الأحداث في لبنان والمنطقة والعالم. الصمت لن يطول. فبعد الخبر الثالث، سيدخل والدانا في نقاش سياسي قد تتوافق فيه مصالحهما وقد تتعارض. فرغم الجنوح يساراً في منزلنا، إلاّ أنَّ أمي وجمال عبد الناصر لن يتركا أبي وأمميَّته بسلام.
نقاش قد ترتفع حدته والخاسر بينهما ينسحب وفقاً للتكتيك التالي: "ماشي الحال، خلينا نكفّي النشرة". أما إذا كانت الأخبار تدين "الإمبريالية العالمية "، فالتناغم السياسي سيشيع جواً شاعرياً قد يدفع بأحدنا إلى إعادة الاعتبار لإذاعة لبنان وأغانيها.
وحدث ذات صباح أنّ هز المنزل عصف انفجار ضخم. هرعنا إلى الشرفة نستطلع الدخان الأسود، أبي وأمي يقدّران مكان الانفجار وحجمه، وإخوتي الصغار يرقصون فرحاً: "ما في مدرسة.. ما في مدرسة". أسرعت أمي إلى المطبخ بعد أن شمّت رائحة الحريق. من شدة الانفجار، وقعت ركوة القهوة وانقلب الراديو مشوياً على الغاز. كان يُخرج من أحشائه عشرات الصراصير التي قتلها والدانا.
أخي الصغير الذي اعتلى كرسياً خشبياً لم يتوقف عن الصراخ والبكاء. احتضنته أمي، وهدّأ أبي من روعه، باعتقادهما أنّ صباحاً مثل هذا، ثقيل على طفل في الثالثة من عمره. فصرخ أخي: "ليس هذا السبب". استوعبنا ما كان يقوله بعد دقائق، مشيراً إلى مجزرة الصراصير: "انظروا ماذا فعلتم! قتلتم كل من في الراديو، مات المذيع والمذيعة، مات الفنانون! خرَّبتم كل شيء...".