قبر مجهول

27 يناير 2015
+ الخط -

غارت قدماي في الطّبقاتِ السميكة، الهشّة بفعل المطر. مَسحتُ الطينَ عن الوجوه المهترئةِ بتعب. "ماذا يقولُ الأموات حِين يعثرُ عليهِمُ الأحياء؟ هل يبتسمون لِملامسةِ دفئ الدم المتوقّد في العروق؟".. لم أستطع عدَّ الجثثِ المتكوّمة فوق بعضها.. وجوهٌ غضّة يافعة تندَى بالأحلام. ماعَ الجلد المهترئ من لزاجة الوحل بين يديّ وانبعثتِ الرائحةُ العمياء، شرسةً كأنها غَضب الأموات؛ رِيحَهم النافذة من عالمِ الظلمات.. وكأن البلاد التي أنجبتهم قبر هائلٌ مجهول.
 
 تتشابه الوجوه المهتوكةُ في المجازر.. وفي كلِّ مجزرةٍ يهطلُ مطرٌ كثيف، كأنما الأجساد تنتظر كلَّ ذلك الماءِ لتتفسّخ بسرعةٍ وصمت. هدرت السماءُ المحتقنةُ بمطر أربعين َسنةٍ عجفاءَ، وطَوال سبعةَ أيامٍ وستة ليال انهمر المطر من سماء درعا على طرقاتٍ لُطخت بدماءِ شبانٍ لا تتجاوز أعمارهم العشرين عاماً، حباتٌ ناعمة لامست أنوفهم بالقُرب من الجامع العمري، ومن هناك بدأ الطوفان، واستعدّت الأرض لبحرٍ هائجٍ من الدماء.
 عاشت جدّتي زمناً طويلاً نسيَت أن تُحصي أيّامَه وسنيه. كُنت أمشي معها على طول الوادي المنحوت من حجر البازلت أسفل سماء قريتنا حيثُ تنتصبُ بُيوت المترَفين، بِمضافاتها، ودِلال قهوَتها المرّة، وتجهّمِ شيوخها ورجال دينها الذين يَتفرّسون وُجوه بَعضهم البعض بحثاً عن العزاء والسلوان و"السوالف"، فتتلو في سرّها: " قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أوَلو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون. لا أذكرُ المرّة الوحيدة التي زارت جدتي فيها دمشق، حيث صلّت في الجامع الأموي، ومشَت في الشارع المستقيم، وتفرّجت على الكنائس وأضرحة الأولياء. كنتُ مسروراً وهي تسير معي مثلما كنا نسير معاً على طرف الوادي، وفيما كنا نقف على سطح منزلنا في عين ترما؛ الملحق الذي بناه والدي وسقَت جدرانَه أمي التي كانت تطعمنا بيدٍ وترشّه ماءً باليد الأخرى ليشرف على جنة الإسمنت التي بلعت الغوطة، أخذت تراقب جبل قاسيون. كانت المرأة المسنّة بـ "شرشها" الأسود أشبه بموكب جنائزيٍّ مهيب يقطع طرقات المدينة فتلتفت وجوه المارة، لكأنها مرارة الذاكرة المحتجبة. سألتُها: "أم عبد الرؤف مبسوطة؟" تنهّدت وهي تراقب القصر الجمهوري، ثم قالت: "إن الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها، وجعلوا أعزّة أهلها أذلّةً، وكذلك يفعلون". وساد الصمت الأسود الذي تلوّن بلون شرشها، وانكسرت المدينةُ تحت وطأة عينيها الحادّتين اللتين دُفنت فيهما دهشةٌ غارَت بفعل الموت المتواصل منذ خروجها الأول من فلسطين.
 
وعلى خوف العجائز والرجال الذي يشبه الحجر الأسود الأصمَّ في قريتنا ارتفع القصرُ الجمهوري؛ وفيما كانت الأرض تطوف بالدماء، حاول القصر وأد أحلام شبّانها بالتفاوض مع أهاليهم. مالت الجدران الهشّة.. وبدأَت تحصد أرواحنا واحداً تلو الآخر. كنت أفلّي نفسي من الحصى المنغرز إثر التعثّر بعد مطاردات الأمن في حواريّ وشوارع تُركنا فيها نهباً للصدفة. رنّ الهاتف الأرضيّ في منزل عمّتي ليأتي بعدَها صوت أكرم ابن مخيم درعا: "الحوارنة عم بفاوضو على دم شهدائهم". قلت له "ماذا تقصد؟"، قال: "إذا تركنا هل الشيوخ القوادين رح يضيع دمنا ودمكم مع الشخاخ". خرجنا من مخيم درعا في سيارة "الآسية" التي كان يستخدمها أكرم في بيع العطور. كانت درعا البلد كتلةً من السواد، لفّ الصمت حواريها والشوراع، أما نحن فكنّا نترقّب في العتمة مصيرنا المجهول، تفرّسنا في الطّرقات التي اعتدنا المرورَ فيها، وتوالت الذكرى البغيضة لوجوه مشوهةٍ كانت تجلِد غضاضة أحلامنا وتحيلُها إلى إسمنت. شممنا رائحة الخوف المنبعثةَ كما لو أن مجاريرَ المدينة قد فاضت حولنا.. تسربلنا بالسواد، واتّجهنا نحو درعا البلد. خرج من درعا في الطريق إلى دمشق العديد من وجوه العائلات والوجهاء والمشايخ، هم ذاتهم الذين قالوا لأبنائهم في بداية الثورة: "شو هاي الثورة يلي طالعين فيها؟ بلا ثورة بلا بطيخ اقعدو وظلكم عاقلين". لم أعرف كيف اختير ذاك الوفد، علمت فجأة أنهم يتفاوضون. قبلها بعدّة أيام خرج شباب القرى نحو المدينة لمنع أية وفود وسدّ الطريق أمام المفاوضات التي كانت تتم في السر.
 
يقولون أن الحجارة السوداءَ خرساءُ بسبب الجثث التي قُتلت غيلةً، وفي صغري كانت تلك الحجارة ترعبني، كنت أظنّها أفواهاً تكتم صرخةً وتمتلئ بالأنين، حجارة منذ عهد نوح الذي كانت جدتي تحكي لي الحكايات عنه وعن العمالقة الذين بنَوا سفينته كي يخلّص البشريّة، وحين كنت أسأل جدتي عن هؤلاء العمالقة؛ كيف يبدون وما كانت أحجامهم، يزوغ بصرُها وكأن شريطاً من الذكريات يسحبُها إلى ماضٍ سحيق، لكأنها كانت شاهداً على الطوفان الذي أخذ حياة البشر، ثم تولج الخيط في ثقب الإبرة على وهج السّراج وتقول: "العماليق بقلوبهم يا جدة"
لم يمضِ كثيرٌ من الوقت حتى امتلأت ساحة العمري بالمتظاهرين اليافعين، كانوا يتوافدون كما لو أن الطوفان قد وقع بالفعل، كنت أرقب الوجوهَ اليافعةَ المحتقنةَ المتورّدة حين هبّت نسمات باردة لفحَت التساؤل والنشوة التي لفّها ليل درعا. عادت لجنة التفاوض من دمشق بعد أن وافق القصر الجمهوري على طلبات اللجنة: انسحاب الجيش والأمن بشكل كامل من درعا كبادرة حسن نية. خرج أحد المفاوضين من اللجنة على خشبة مسرح كانت قد نُصبت في ساحة العمري بعد أن غابت خشبات المسارح وانحصرت في المراكز الثقافية المغلقة، كان الرجل يبلغ الأربعين من عمره. كنت أراقب المشهد من الأعلى جالساً على ظهر الجامع وفيّ يسري شعورُ أنني على ظهر سفينةٍ ضخمةٍ ستنجيني من طوفانٍ مريع. لم تكن جدّتي تجيد القراءة والكتابة، ولكنها دأبت تحثّ والدي على الدراسة. كان مولعاً في صغره بارتداء القميص والكرافة، وكانت تقول له: "إذا ما فلحت بالقراية رح تظل حمار برسن". ولم يطق والدي أن يكون حماراً برسن، فأغلب الرجال والشباب سافر الى دول الخليج ليعمل هناك، وأمّا من بقي فلم يكن أمامه سوى الالتحاق بالجامعات من أجل الوظيفة. كبُر والدي والتحق بكلية الحقوق، ثم أصبح ضابطاً في الشرطة، لكنّ جدتي بقيت تقول لي: "لا تطلع مثل أبوك؛ بعده حمار برسن". انتهت اللجنة التي احتلّت ساحة العمريّ من عرض التفاوض الذي أجرته في دمشق، وفيما كانت الإذاعة التي نُصبت على الطرف الآخر من ساحة الجامع تتلو خبر سقوط عدد من الشهداء في اللاذقية وخروج مظاهراتٍ في دوما، صعد شاب إلى المسرح، نظر في الوجوه المتغضّنة للجنة وقال: "هذه المظاهرات لا تخصّ درعا فقط، إنها ثورة بدأت، وإن تفاوضْنا ستموت سورية لمئة عام قادمة. من هنا سوف نعلن إسقاطَ النظام". وهدر صوتُ الشباب في السّاحة لأول مرة: "الشعب يريد إسقاط النظام". بقيت درعا محاصرةً شهراً كاملا، وعلى بعد ساعةٍ من الزمن كان الناس في مدينة دمشق يكذّبون ما يحصل، مات آنذاك الكثير من الشبان، مات أكثرُهم إيماناً وأكثرُهم اتّقاداً، وفي كل المظاهرات المليونية والمئويّة التي شاهدتُها، كان بضعة مئات من الشبان هم من يواجهون عناصر الأمن، فيما البقية تتفرج لتخرج بعدها إلى الرقص، كان الجميع يحب من الثورة ذاك الفصل المتعلّق بالرقص. أربعة سنين مضت، حَرّر فيها من بقي من شباب المظاهرات أغلبَ المدن والمناطق السوريّة، وحمَو جبهاتٍ طويلةً مع النظام، فيما كان الرجال والمسنّين والمثقّفين ينقلبون إلى دين آبائهم ويفاوضون على دماء الشباب التي سالت كمطر في مجارير تنظيراتهم وعقدهم وخياناتهم واتّجارهم بالدين. في كل الجبهات الطويلة الشاسعة التي امتدّت من درعا حتى إدلب، كان الشباب الذين خرجوا في المظاهرات أولاً ثم في الاقتحامات ثانياً يقدّمون دماءهم كما لو أنها قربانٌ لحرية الآخرين. مازال المطر منهمراً وكأنه لم يتوقف، وفي كل مرّة أشاهد الوجوه الجديدةَ التي تتفاوض وتتعارك وتبيع وتخون، يداهمني ذات الكابوس عن أصدقاء البداية الذين غيّبتهم مجزرة طويلةٌ تمتدّ منذ أربعة سنين، لتدفن من خرج ذاتَ يومٍ في الثورة في الطين كأنفس مجهولة غير معرّفة، طينٌ بات قبراً لثورة يُحكى عنها، قام بها الشبّان واستلمها القوّادون.​
المساهمون