قبرص ساحة أخرى لحرب تخريب المنطقة وإنقاذ إسرائيل

08 نوفمبر 2014
أصبحت القاعدة أساس الهجمات على "داعش" (دان كيتوود/Getty)
+ الخط -

يمتلئ البحر الأبيض المتوسّط وسماؤه، ما بين قبرص والسواحل العربية والتركية، بطائرات "التحالف" الذاهبة أو العائدة من غارات على مقارّ تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، كما يمتلئ بآلات حفر ضخمة لاستخراج الغاز، إضافة إلى السفن الحربية.

وفي الوقت الذي أنهت فيه القوات البحرية المصرية تدريبات بحرية للتو، نفّذت الغواصات والبوارج الإسرائيلية تدريبات مشتركة مع قبرص الأسبوع الماضي. وعلى مقربة من الجميع، تجري السّفن الروسية مناورات واسعة بين قبرص وسورية. كما قررت تركيا أن تدخل في لعبة "إظهار العضلات"، وأرسلت إحدى سفنها بزعم البحث عن الغاز برفقة بوارج حربية، قبالة الشواطئ القبرصية، تزامناً مع تعاون أنقرة بشروط في موضوع عين العرب، وتحديداً في ملف إيصال مقاتلين أكراد إلى المدينة.

ووسط الحشد الكبير من السفن الحربيّة، يتواجد العرب أيضاً، وإن بشكل مختلف، إذ يركب مواطنون من بلاد الشام قوارب مهترئة في أعالي البحار، تُستخدم لمرة واحدة، في نقل عرب هائمين هاربين من بلادهم إلى أي مكان.

ويزداد هلع القبارصة من انتقام "المتشددين"، فضلاً عن الخوف المتأصل من بطش الأتراك. فيرون القليل ولكنهم يسمعون الكثير، إذ لم يعد بالإمكان التمييز بين أصوات الانفجارات في البحر أو هدير الطائرات القاذفة، وهي في طريقها لضرب مقرّات "داعش" أو إن كان ذلك أصوات رعدٍ يُبشّر بالمطر.

قبل يوم من تأييد البرلمان البريطاني في 26 سبتمبر/أيلول الماضي، انضمام بلادهم إلى التحالف الدولي في الحرب على "داعش"، دوّت أصوات هائلة فجراً في عرض البحر أمام مدينة ليماسول القبرصية، قبالة الشاطئ السوري، أشبه برعدٍ هادر وسط خليط الغيوم الثقيلة الزاحفة، البيضاء والسوداء.

ينتظر الناس هنا المطر الغائب منذ شتاء العام الماضي، لكنه لم يكن الشتاء، بل إن طائرات "تورنادو"، حطّت فجراً في القاعدة البريطانية "أكروتيري". القاعدة عينها التي باتت على وشك أن تصبح القاعدة الرئيسية، إن لم تكن الأكبر، في حرب غامضة مفتوحة، هدفها المعلن "القضاء على داعش والإرهابيين".

أضحت ليماسول الواقعة على بعد 113 كيلومتراً عن الساحل السوري مدينة كبيرة، يسكنها قرابة 200 ألف نسمة، يُشكّلون خليطاً معقّداً من قبارصة لجأوا إليها بَعْد تقسيم الجزيرة في حرب عام 1974 بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين، وبريطانيين، على صلة ما بالقاعدة أكروتيري.

كما يسكن المدينة أثرياء روس يعملون في قطاعي التجارة والخدمات، فضلاً عن عمال من دول شرق أوروبا، وعرب ضحايا حروب المنطقة منذ قيام إسرائيل، مروراً بالحرب اللبنانية (1975 ـ 1990)، والغزو الأميركي للعراق (2003)، إضافة إلى فارّين من مضاعفات "الربيع العربي" وحكم الرئيس السوري بشار الأسد، وأخيراً من "داعش" وأمثاله ومن الحَرْب عليه.

عند الطرف الجنوبي الشرقي، تقع قاعدة أكروتيري على البحر مباشرة، وتمتد كيلومترات في البحر تجاه الساحل العربي المقابل، وتصلح تضاريسها المنبسطة لإقامة مدرجات لهبوط وإقلاع أضخم الطائرات القاذفة والمقاتلة من دون عناء.

وأصرّ الإنجليز، لأسباب استراتيجية، على الاحتفاظ بالقاعدة، إضافة إلى قاعدة ديكليا، شمال الجزيرة، بالقرب من الجانب القبرصي التركي، إثر فشل العدوان الثلاثي البريطاني الإسرائيلي الفرنسي على مصر، بعد تأميم مصر لقناة السويس عام 1956، وتوقف تدفق النفط إلى ميناء حيفا في فلسطين، الذي كان من أكبر الموانئ لتصدير النفط في الشرق الأوسط آنذاك.

وخطط الإنجليز لإقامة قاعدة عسكرية تتحكم في منافذ قناة السويس، لكن دحر العدوان الثلاثي الذي مثّل إعلان نهاية امبراطوريتهم العجوز، أجبرهم على تحويل وجهة السفن ي حينها إلى قبرص بدلاً من السويس، وكانت تقلّ منشآت القاعدة، بما في ذلك منازل جاهزة التركيب، يُمكن رؤيتها منصوبة الآن في حامية ايبوسكوبي قرب أكروتيري.

قَدَر هذا المكان الواقع على مفترق القارات الثلاث، أن يظلّ مرتعاً وبوابة للغزاة أو الفاتحين. حديثاً وبعد الحرب العالمية الثانية، استخدمت سواحل قبرص لنقل عشرات آلاف اليهود إلى فلسطين. كما شُكّلت قاعدة رئيسية للعدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، ولمساعدة إسرائيل في حرب يونيو/حزيران عام 1967.

وتبع ذلك لاحقاً، إدخال قبرص إلى الاتحاد الأوروبي، وإخراجها من تكتل دول عدم الانحياز (ونهاية أحلام القوميين السوريين بجعلها نجمة الهلال الخصيب) لأسباب استراتيجية وأمنية، فرضت على القبارصة سياسات جديدة تجاه المنطقة، وهيأت لعلاقات متينة تتطور مع إسرائيل على كل الصعد الأمنية والاقتصادية.
كما يبرهن النشاط الإسرائيلي بكثافة كبيرة في شراء وبناء العقارات الضخمة، أهمها أعلى برجين في المدينة، وفي بناء الأسواق التجارية، وينشط الإسرائيليون في تجارة المال، خصوصاً مضاربات البورصة.

وتُستخدم قاعدة أكروتيري لكل الأغراض، فهي مطار تحطّ فيه وتقلع منه طائرات "تورنادو"، القاذفات الضخمة "فخر صناعة الطيران البريطاني"، بعيد المدى والقادر على تخزين حمولة هائلة من المتفجرات. كما تُعدّ مكاناً للتنصت والتجسس على كل ما يدور في الشرق الأوسط، وتكمن محطة الرصد والبث من قمة جبل أوليمبوس الأعلى في جبال قبرص، على ارتفاع 1952 متراً، حيث يكتفي الإنجليز ببعض مئات من الأمتار لنصب أضخم مرصد يمكنك أن تراه من السّاحل، ويتصل بلواقط وكابلات بحرية أخرى في قاعدتي أكروتيري وديكليا، ومحطة إرسال تأسست في الثلاثينيات في بلدة زيي، شمال ليماسول، يجري استبدالها وتحديث إرسالها المرئي والمسموع، لبث محطة "بي بي سي" بالعربية، وبأكثر من 30 لغة أخرى.

وفي وسط المدينة عند شاطئ البحر، أقام القائد الصليبي ريتشارد قلب الأسد حامية وقلعة انطلق منها إلى فلسطين في الحملة الصليبية الثالثة عام 1191، وعاد إليها بعد هزيمته وفشله في دخول القدس المحتلة، قبل أن يبيع قبرص إلى الفرنسيين، حيث أقام "ملك القدس" المعزول غي أوف لوزينيان.

وخاض العرب في شمال الجزيرة بالقرب من الحدود التركية، في عهد الخليفة عثمان بن عفان وتحت إشراف معاوية بن أبي سفيان، معركة "ذات الصواري" في أول مجابهة بحرية كبيرة للمسلمين، انتهت بانتصارهم على البيزنطيين وطردهم من قبرص عام 655.

وتقع قلعة كولوسي جنوب ليماسول في الأراضي السهلية الخصبة، التي استصلحتها الشركة البريطانية الفلسطينية التجارية قبل نكبة 1948، والمزروعة بالحمضيات، تحديداً البرتقال اليافاوي أو "يفيتيكا" كَما يسمونه باليونانية.

استخدم الصليبيون في غزواتهم على الشام ومصر، هذه القلعة عند حدود أراضي القاعدة البريطانية، وفي اللسان الممتد إلى داخل البحر المتوسط، وفي الأراضي السهلية الشاسعة، المليئة بالمياه الراكدة، وهناك يقع أيضاً مهبط الطائرات الضخمة الناقلة والقاذفة.

نسمع أصوات الهدير ولا نرى شيئاً، ولو كانت الأصوات الهائلة رعداً، متبوعاً بالمطر، لغرقت الجزيرة. إذ بتنا نتوقع ونحن ننظر إلى البحر، إن كانت الطائرات تُقلع أو تهبط من "رحلات إلى الشرق".
لم نعد نفرّق إن كان الصوت لطائرة "تورنيدو" تتميز بصوتها الهادر الضخم، أم لطائرة "إف 16" الأميركية، كرعدٍ هارب أم صوت قوي عالٍ مختلف (ككل شيء فرنسي) للطائرات الفرنسية الرابضة في مدينة بافوس.
تحتاج الطائرات القاذفة إلى بضع دقائق للوصول إلى شاطئ المتوسط، عبر تركيا، ومنها إلى معاقل "داعش". أما الطائرات المقاتلة فلا لزوم لها، كما ثبت في الحروب الأخيرة على العراق وسورية وفلسطين.

أما وقد احتاج الأمر مسلكاً آخر، فبضع دقائق إضافية نحو الجنوب الشرقي، فوق مناطق التحالف السري والمعلن، هناك إسرائيل، الاْردن، سورية، هناك حيث يكمن جلّ طموح بشار الأسد وبقايا نظامه، أن يصفح عنه الغرب ويضمّه مجدداً إلى تحالف هو جزء من سلسلة تحالفات متعاقبة، لم يغب عنها الابن وقبله الأب (حافظ الأسد) وسبقت أو تلت كل الحروب في المنطقة منذ نكبة فلسطين.

نتساءل ونحن ننظر إِلى السماء نلاحق أصوات الطائرات، من زاوية في اللسان العريض الذي تهبط وتقلع منه الطائرات، إن كان قد بقيت هناك أهداف لـ"داعش" لم تُقصف بعد، أو إن كان هذا يتم في إطار تدريبات مكثفة وإعداد لما هو آتٍ، بوجود "داعش" أو عدمه.

ألم يقل قادة التحالف الدولي إن "الحرب على داعش والإرهاب ستستمرّ طويلاً، من ثلاثة إلى عشرة أعوام؟". ربما يعني كل هذا الوقت احتياج الغرب كي يقوم بتجديد وتحديث بنى سايكس بيكو، بطريقة محكمة التخطيط والصيانة، بعد أن ظلّت صالحة وفعّالة، هنا في قبرص وفي كل بلدان المنطقة، قرابة قرن من الزمان.

خدمت هذه البنى، إقامة وحماية إسرائيل والسيطرة على الطاقة، وحطمت في الطريق، كل مشاريع التحرر والديمقراطية العربية، بما في ذلك ما استلزم، خلال العقدين الأخيرين، من تدمير حواضر الشرق في العراق وفي سورية.

كأن من أحكم وضع بنى ضمنت خراب المنطقة قرناً، بات يرى الآن وجوب صياغة بنى جديدة في منطقتنا، صالحة لقرنٍ آخر من الزمان، تطبق فيه متلازمة المرض الإسرائيلي العضال وديكتاتورية الأنظمة على المحيط، بهدف إنقاذ إسرائيل ومحو فلسطين نهائياً.

ويتلاشى في هذا كل الكلام الكاذب إلى الآن عن الإصلاح والحريّة والعدالة وحل الدولة أو الدولتين، ويقذف البلاء هذا إلى المحيط العربي الأردني، والمصري، والسوري، واللبناني، وما وراء ذلك عند "الحلفاء" العرب قُرْب المال والنفط. كأن ما قيل عن "إسرائيل كبرى" ، هو هذا الذي نراه الآن "نكبة كبرى" تكاد تطبق من كل الجهات على أعناقنا.

المساهمون