قانون الكانتونات الثقافية المتعادية

09 اغسطس 2018
+ الخط -
يبدو أن ما استطاعته إسرائيل، خلال أعوام النكبة الأولى، من تفتيت المجتمع الوطني الفلسطيني وتفكيكه، وشرذمته وتقسيمه، لن تستطيع اليوم وعبر إقرار "قانون القومية"، بكل مثالبه وسيئاته، وإعلانه الإيغال أكثر في دروب التمييز العنصري، وجعل "الدولة" وقوانينها دولة أبارتهايد فعلية، ودولة إثنوقراطية معلنة على رؤوس الأشهاد، نفيا لديمقراطيتها ومدنيّتها وعلمانيّتها ومساواتها المزعومة، لن تستطيع، عبر هذا القانون، البقاء، كما كانت طوال السبعين عاما الماضية، فالانفضاض السياسي المعارض للقانون والرفض الطائفي والمدني والوطني الفلسطيني في نطاق فلسطين الـمحتلة عام 1948، كلها تقوم على تسفيه القانون، والحط من قيمته القانونية والقضائية والسياسية، وصولا إلى رفضه بالكامل.
وفي ظل عنصرية المؤسسة الكولونيالية، وانكشاف توفرها على سياسات تمييزية واضحة، تفرّق أكثر مما توحد، فإن الهزة التي أثارها "قانون القومية" العنصري الذي أقره الكنسيت أخيرا، أثارت، وما فتئت تثير، ردود فعل متباينة بين الإسرائيليين اليهود أنفسهم، كما بين من اعتبروا إسرائيليين من غير اليهود، ضد ائتلاف اليمين الإسرائيلي الحاكم، حيث انضم الجنود والضباط البدو العاملون في الجيش الإسرائيلي إلى احتجاجات الجنود والضباط من الطائفة الدرزية الذين يدعون إلى الانسحاب من الخدمة في الجيش، تعبيرا احتجاجيا قويا ضد القانون الذي يصنفهم جنودا "درجة ثانية"، في حال لم تقم الأحزاب اليمينية بإدخال تعديلات أو حتى تغييرات جوهرية عليه، في وقت كشف فيه عن شروع قيادة الجيش بمحادثات معهم للتوصل إلى حلول. ونقلت هيئة البث الإسرائيلية (مكان) عن أحد الضباط البدو قوله إنهم يشعرون بأن إسرائيل "تخلت عنهم بعد أن دافعوا عنها".
جاء ذلك وسط احتجاجات كبيرة شرع بها الضباط الدروز، ووصلت إلى حد إعلان أحدهم 
الانسحاب من الخدمة في جيش الاحتلال، رفضا للقانون الجديد. وأكد هذا الضابط أن الدولة التي خدمها، هو واثنان من أخوته بالإضافة لوالده، "لم تمنحهم شيئا في المقابل سوى تحويلهم مواطنين من الدرجة الثانية"، وطالب قيادة الطائفة الدرزية بالدعوة إلى الانسحاب من قانون التجنيد الإلزامي.
وكانت احتجاجات الدروز والبدو اشتدّت وتيرتها، مع الكشف عن عقد رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، "صفقة" مع الأحزاب الدينية، لتمرير "قانون القومية"، تشمل موافقتهم على القانون الجديد الذي يعطيهم ميزات عن باقي السكان، في مقابل إعفائهم من الخدمة العسكرية التي يعمل فيها البدو والدروز، على الرغم من انتقاص القانون من مكانتهم.
وفي هذا السياق، انفجرت الجلسة بين نتنياهو والرئيس الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل، الشيخ موفق طريف، ووجهاء دروز آخرين، على خلفية "قانون القومية"، بعد أن قاطع أحد الحضور، وهو العميد (احتياط) في الجيش الإسرائيلي، الدرزي أمل أسعد، حوار طريف ونتنياهو، عدة مرات. ما أدّى إلى انفضاض الجلسة، واضطرار نتنياهو للقول إنه "لن يقبل أي مس بمكانة رئيس الحكومة والدولة، من شخص يصف إسرائيل بأنها دولة آبارتهايد".
ويستمر تعبير أبناء الطائفة الدرزية (نحو 120 ألف نسمة) عن الغضب، على الرغم من تعهد نتنياهو، بـ"ترسيخ وضعهم" في إسرائيل. في وقت أعلن ثلاثة ضباط دروز في الجيش اعتزامهم الاستقالة، حسب قناة عبرية، على الرغم من دعوة رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، غادي إيزنكوط؛ "إلى إبقاء القضايا السياسية المثيرة للجدل خارج نطاق الجيش".
وقد كشف نائب رئيس جهاز المخابرات (الموساد) سابقا، رام بن براك، عمّا سمّاه الهدف الحقيقي وراء إقرار الكنيست الإسرائيلي "قانون القومية"، وهو التمهيد لضم الضفة الغربية إلى إسرائيل، وعدم منح سكان تلك المناطق أية حقوق سياسية. ليس هذا فحسب، فأهداف نتنياهو تتعدّى ذلك إلى البيت الداخلي، فهو يريد الفصل بين اليهود أنفسهم، ففي مقال له في صحيفة هآرتس 1/8/2018، ذهب تسيفي برئيل إلى أنه، في القانون الجديد لدولة إسرائيل، كما صيغ في قانون القومية، هناك نقص، ليس مصادفةً، لكلمتين مهدّدتين: ديمقراطية ومساواة. في أي مكان في القانون لم يذكر أن الدولة اليهودية ستكون ديمقراطية، أو أنها ستمنح المساواة لكل مواطنيها. فإذا كانت هناك ذريعة واحدة، ومن أجلها يلتزم كل سكان إسرائيل بالخروج إلى الشوارع، فإنما تكمن في غياب هاتين الكلمتين.
وفي توضيح لا يخلو من دلالات وإشارات إلى نقائص القانون وتناقضاته، الأمر الذي لن يجعل منه وثيقة "الخلاص" النهائية من مشكلات إسرائيل الوجودية التي لم تحسم، على الرغم من مرور سبعين عاما على قيامها، وعلى الرغم من المزاعم القائلة اليوم إن "قانون القومية" يأتي ليكمل ما أرادته مؤسسة السلطة الحاكمة، اضطر نتنياهو، وفق ما نقل عنه مكتبه الإعلامي، إلى الزعم مرة أخرى أن "دولة إسرائيل هي الدولة القومية الخاصة بالشعب اليهودي، إسرائيل هي دولة يهودية وديمقراطية. الحقوق الفردية مكفولة بقوانين كثيرة، بما فيها القانون الأساسي، وكرامة الإنسان وحريته لم ولن يمس أحد بهذه الحقوق الفردية، ولكن بدون قانون القومية لا يمكن ضمان مستقبل إسرائيل دولة قومية يهودية للأجيال القادمة".
وفي رد غير مباشر، سبق تصريح نتنياهو الإعلامي أخيرا، ذهب تسيفي برئيل إلى حد اتهام رئيس الحكومة بالكذب، حين كتب، في مقاله، "هنا يكمن الكذب الفظ الذي يقول إنه لا يوجد في القانون مسّ بحقوق الفرد، لأنه على الأقل، وفي هذه الحالة، القانون يمنع الفرد من السكن في أي مكان يريده. والأهم أنه في الفصل الذي يقوم به نتنياهو بين حقوق الفرد والحقوق الجماعية للطائفة، فهو يناقض الرؤية التي تقول إن حقوق الفرد، يهوديًا أو عربيًا، مرتبطة ومشتقة من حقوق طائفته. بدون هوية جماعية لا معنى لهوية الفرد. هذه الرؤية هي أساس حياة كل ديمقراطية، لكن ليس بطريقة النظام الإسرائيلي".
لا يُتوقع أن تجري الأمور بسلاسة، في ظل قانون يثير من التعقيدات أكثر مما يقدّم أو يقترح من الحلول القانونية/ الدستورية. ففي حين "ساد حتى اليوم وهمٌ لدى الجمهور بأن التهويد والتطوير القومي ظواهر عرضية لحكومةٍ تجري مكوناتها فيما بينها منافسة سياسية، ظواهر يمكن استئصالها بوسائل ديمقراطية مثل انتخابات أو مظاهرات، فقد جاء القانون لينهي هذا الأمل. وهو يخلق مسخًا قانونيًا سيؤدي إلى صراع دائم بين المواطنين ودولتهم، وسيحطم هويتهم أفرادا وطائفة، وسيبني كانتونات ثقافية تعادي بعضها بعضًا، وسيحول الزعيم وليس الدولة إلى محل للتماهي ورمز للهوية". فهل هذا ما سعى إليه نتنياهو ملك ملوك التطرف والمراوغة والفساد؟
ولم يكتف اليمين المتطرّف بالترحيب بقانون القومية هذا، بل ذهب بعضهم إلى نفي العنصرية عنه، كونه فقط "يكفل تقرير مصير اليهود"، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، حين اعتبر القانون درعا حاميا من خطر تحول إسرائيل "دولة ثنائية القومية"، وكذلك يضع حدّا لوقف الاتجاه الذي كان يدفع نحوه القاضي أهارون باراك، عبر ما تسمى باللغة الأكاديمية "دولة كل
 مواطنيها"، ولكن عمليا كذلك الحد من الاتجاه إلى "دولة كل قومياتها". ويقول الاستنتاج إنه بدون هذا القانون، كان مواطنو إسرائيل العرب سيطالبون بحكم ذاتي قومي، وهم يطلبون هذا منذ الآن، ولكن وبدون حجر عثرة "قانون القومية" هذا، كانت طريقهم يمكن أن تكون سلسة.
والمحصلة التي يمكن أن ترسو عليها وضعية "قانون القومية" ليست إثارة تعارضات وتباينات وصراعات عديدة، يمكن أن يثيرها القانون داخل إسرائيل الكولونيالية، سياسيا وثقافيا، وسلطويا كذلك، مثلما أشار ألون بن دافيد في إطلاق تسمية "رسول الرب" على نتنياهو من القناة 20، في سياق التصويب على القانون الذي عدّ بمثابة "نجاح عظيم لنتنياهو".
ولئن كان "قانون القومية" بصياغاته الراهنة يعلن، بدون تأتأة، عما تريده المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية، وما تترصده لإفشال أي تسوية تفضي إلى "حل الدولتين" ومنع عودة اللاجئين؛ ما الذي يريد الفلسطينيون (جميع الفلسطينيين على اختلاف مناطق وجودهم) من إسرائيل الكولونيالية، وهي تقرّر أحاديا أن "تقرير المصير" و"حق العودة" حق لها فقط؛ لذاتها ولمهاجريها ولمستوطنيها القادمين من كل العالم، كي يقيموا فوق تراب وطن شعب آخر، وعلى حسابه وفوق أرضه التاريخية التي يُراد السيطرة عليها بالكامل، وإسرائيل النكبة كما القانون الحالي هي "الدولة الإثنوقراطية" بامتياز، دولة أبارتهايد أرادت، منذ البدء، وكما تريد اليوم أن يستتب لها "الأمر الواقع"، وليستمر كيفما كان طوال السبعين عاما الماضية. وها هي عبر "القانون الجديد" تريد استعادة مبادئ الصراع الأولى من حيث لم تحتسب.
47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.