في وصف حال "أمة عربية"
نمر، نحن العرب، اليوم، بواحدة من أدنى نقاط الحضيض التي وصلنا إليها في تاريخنا. وبهذا، فإن توصيف أبعاد أزماتنا وأغوار معضلاتنا، يغدو، أحيانا كثيرة، مما لا يلزم، فالواقع أصدق إِنْبَاءً من الصُحُفِ.
أحلت إلينا جَمَعِيّاً، بالعرب، وليس بـ"أمة العرب"، ذلك أني لا أعلم حقا ما إذا كنا نشكل، اليوم، أمة. صحيح أن ثمة لغة واحدة تجمعنا، وإن كانت شَرْذَمَتْهَا اللهجات المحلية وحلت محلها. كما صحيح أن لنا تاريخ واحد، غير أن قراءاته اليوم تتعدد، ومن ثَمَّ ترانا، في سياقٍ من التحيزات، نتحزب ونتنافر ونتشاكس، بناء على أساس من تلك القراءات المختلفة. أما الدين الذي يفترض أنه يُؤَطِّرُ غالبيتنا، فإنه محكوم بتعدديات وتناقضات مذهبية وطائفية، دع عنك الفرق والمدارس والتوجهات التي حلت محل الدين الجامع والأرحب في التعريف. وبهذا، لم يعد التشظي رهينة سنة وشيعة، بل إنه، الآن، واقع في المذهب الواحد، كإخوان وسلفيين وصوفيين، إلخ، في الحالة السنية، وهو تشظٍ يذهب ما وراء المذاهب الفقهية، ويقابله إمامية وزيدية وإسماعيلية، إلخ، في الحالة الشيعية. وبهذا، لم يعد المسيحيون العرب، مثلا، والذين شكلوا دوما جزءا أصيلا من تاريخنا الجَمَعِيِّ، وحدهم، وغيرهم من الأقليات الدينية العربية الأخرى، من يشعر بالاغتراب في جسد "الأمة"، بل إننا كلنا، جميعا، أصبحنا نعيش حالة اغتراب في سياق "الذات".
وإذا كان الحال كذلك، فلا تعجب، إذن، عندما لا تكون مصالحنا مشتركة، وغاياتنا واحدة، حتى وإن كنا أبناء فضاء جيوسياسي واحد. فعندما تكون الهويات الفرعية، مذهبية كانت أم عرقية، كما في حال الأكراد، مثلا، هي إطار التعريف، حينها يصبح من المستحيل الحديث عن "نحن". فهذه الـ"نحن" غير قائمة حقيقة، إلا في مخيال مثالي، لكنه غائب عن الواقع.
يقدم الإسلام مفهوما للأمة الواحدة على أرضية أساسها الدين: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء: 92)، غير أن هذا المفهوم لم يلغ مواطنة غيرهم من غير المسلمين وحقوقهم المتساوية، الأمر الذي تؤكده "وثيقة المدينة" التي وضعها الرسول الأكرم، عليه الصلاة والسلام، بعد هجرته إلى المدينة المنورة، لترتيب العلاقة وتنظيمها بين مكوناتها الاجتماعية المختلفة، وتحديدا المسلمين، من المهاجرين والأنصار، والقبائل اليهودية، ومن بقي من القبائل العربية فيها على وثنيتهم. "بسم الله الرحمن الرحيم: هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ، بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ. إنّهُمْ أُمّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النّاسِ. الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ. وَبَنُو عَوْف عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى... وَبَنُو سَاعِدَةَ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى... وَإِنّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ... وَإِنّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَإِنّ لَهُ النّصْرَ وَالْأُسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصَرِينَ عَلَيْهِمْ".
غير أن هذا المفهوم الرحب، والفضاء الاستيعابي الواسع، اغتيل، ومن أسف، فقهيا، عندما خلط فقهاء كثيرون بين مفهومي "الكافر" و"المشرك"، من ناحية، وهما المحاربان، حسب السياقين القرآني والحديثي، وما بين غير المسلم، من ناحية أخرى. وبالتالي، أصبحت المقاربة الفقهية التاريخية الغالبة لمفهومي الجزية والذمة، واللذين يفترض أنهما في حالة الأعداء المحاربين، مقدمة على الممارسة النبوية، والتي ألصق بها، هي، ويا للمفارقة، الصفة التاريخية! وهكذا شطبنا، نحن بأيدينا، مفخرة تأصيل المواطنة وتأسيسها، للمسلمين وغيرهم، في نسيجنا الاجتماعي، وسياق تجربتنا التاريخية، قبل أن يعيد بعضنا، اليوم، اكتشافها!
وفي أواخر القرن التاسع عشر، ومع دخول الدولة العثمانية نزعها الأخير، بدأ مفهوم جديد للذات يطل برأسه، ويتمثل ذلك بالقومية العربية. وكان لمفكرين، من أمثال قسطنطين زريق وساطع الحصري وعبد الرحمن عزام، وغيرهم، دور في صياغة إطار الانتماء والتعريف الجديد للذات. وانطلق هؤلاء من أن "الأمة العربية" تجمعها اللغة والتاريخ والمصالح المشتركة والغاية الواحدة، فضلا عن الإقليم الجغرافي الواحد، غير أنهم، وفي سياق تعداد القواسم المشتركة، ألغوا العامل الديني الإسلامي، وأسسوا لمقاربة علمانية للتاريخ وواقع الحال العربي، على أساس أن التاريخ العربي ممتد قبل الإسلام وخلاله وبعده، وأن إدخال العامل الديني في المعادلة يقصي المسيحيين العرب، مثلاً، وهم جزء أصيل من التاريخ العربي المديد.
وبناء على النتاج المعرفي لمثل أولئك المفكرين، برزت تيارات فكرية، كالبعثية والناصرية، مما نادت بتحقيق الوحدة العربية، وخصوصا في عقدي الخمسينيات والستينيات. وبناء على ذلك، قامت "الجمهورية العربية المتحدة" بين مصر وسورية في فبراير/شباط 1958، تحت قيادة الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، غير أنها بالكاد عمرت ثلاث سنين ونصف سنة، لتنتهي بانقلاب عسكري في سورية في سبتمبر/أيلول 1961. المفارقة الأكبر أن جناحي حزب البعث العربي الاشتراكي، في العراق وسورية، حكما ذَيْنَكَ البلدين المتجاورين، عقوداً طويلة، منذ أوائل الستينيات (في الحالة السورية إلى اليوم). ومع ذلك، لم يتوحدا يوما، وكانت علاقاتهما سيئة وعدائية. بل، أبعد من ذلك، وقف نظام حزب البعث في سورية إلى جانب إيران في حربها مع العراق ما بين (1980-1988)، ما فسره كثيرون بأنه موقف بني على حسابات طائفية، على أساس أن العلويين، الحاكمين في دمشق، طائفة شيعية في السياق العام. ثالثة الأثافي في السياقين السوري والعراقي، تحت سلطة البعث، أنهما خلقا مشكلة عرقية مع الأكراد، جراء التعصب القومي الذي تقوم عليه إيديولوجيتهما، دع عنك النظام القمعي الستاليني في الحكم الذي أرسياه.
ومنذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، دخلنا، نحن العرب، مرحلة جديدة، علا فيها مفهوم "الدولة الوطنية"، في اختزال ثالث للهوية الجَمَعِيَّة. ولا أظن أن الأمر يحتاج إلى كثير تفصيل في فشل هذا الأنموذج، هو الآخر، بعد القومية، عسكريا، وسياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا. فلا نحن حققنا اندماجا وحدويا وتكاملا اقتصاديا، في سياق عالم يميل إلى التكتلات الأوسع في هذا العصر، ولا نحن بنينا "دولة وطنية" عربية واحدة، نفاخر بها العالم، بقدر ما أننا ارتكسنا إلى "ممالك طوائف"، متشاكسة فيما بينها لصالح الخصم والعدو.
الأدهى من ذلك كله الحضيض الرابع الذي وصلنا إليه اليوم، بعد أن ظننا أنه لا حضيض بعد حضيض التفرقة "الوطنية". ففي مرحلة ما بعد الثورات العربية، اكتشفنا كم أن بنى أنسجتنا الاجتماعية العربية هشة، وأنه حتى المفهوم "الوطني" للانتماء ما هو إلا مجرد وَهْمٍ، وذلك إذا ما قيس بالعصبيات القبلية والجهوية والعرقية والطائفية. ففي مصر، اليوم، يسود خطاب "احنا شعب وانتو شعب"، فضلا عن إخراج سيناء وأهلها من دائرة الوطن والمواطنة. وفي ليبيا، يعلو خطاب القبلية والجهوية. وفي العراق وسورية واليمن، يسود الخطاب الطائفي والمذهبي، وقس ذلك على حال دول عربية كثيرة.
بكلمة، يحتاج مفهوم "الأمة الجَمَعِيِّ" إلى إعادة بناء، فكريا وثقافيا، أين يكون الدين متصالحا مع القوميات والعرقيات والمذاهب والطوائف، أما منطق نفي كل إطار انتماء للآخر، فلن يقودنا إلا إلى مزيد من التشظي، وإحلال مزيد من الهويات الفرعية المجهرية على حساب الهوية الأساسية والأصيلة الجامعة.