في وداع مستعرب إسباني

02 ابريل 2020

ميغيل كروث إيرنانديث .. انشغال بالثقافة الإسلامية (موقع salamanca24horas)

+ الخط -
رحل أخيراً المفكر والمؤرخ والمستعرب الإسباني، ميغيل كروث إيرنانديث، عن عمر ناهز مائة عام، بعد حياة علمية حافلة، قضى جزءا غير يسير منها في التدريس والتأليف والبحث في قضايا الفكر الإسلامي خلال العصر الوسيط. .. وُلد في مالقة لأسرة من الطبقة الوسطى، ثم تابع دراسته في غرناطة، حيث حصل على الإجازة في فقه اللغات السامية، قبل أن يحصل على الدكتوراه، من جامعة مدريد، عن أطروحته في فلسفة ابن سينا. درّس في جامعات غرناطة وسلمنكة ومدريد. ويعتبر أحد الرواد المؤسسين لحقل الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الإسبانية. ويكفي التذكير بدوره في إنشاء شعبةٍ لهذه الدراسات في جامعة مدريد، الأمر الذي ساعد على تجديد الاستعراب الإسباني المعاصر، وتطوير مباحثه، وفتح مسالك جديدة أمام المهتمين به. 
انضم في مطلع شبابه إلى أحد التنظيمات الطلابية التابعة لليسار الجمهوري، غير أن ذلك لم يمنعه، لاحقا، من ممارسة العمل العام في ظل نظام الجنرال فرانكو، فشغل عدة مناصب، منها محافظ سلمنكة (1958-1962) وألباسيطي (1962-1968)، كما عُيّن نائبا في الكورتيس (البرلمان الإسباني). كما شغل مسؤوليات في تدبير الشأن الثقافي، أبرزها ترؤسه ''مؤسسة النشر والكتاب''، حيث شهدت الرقابةُ في عهده تساهلا ملحوظا مع المنشورات، وهو ما لم يرُق للنظام، سيما بعد تغاضيه عن نشر دور نشر إسبانية كتبا كانت محظورة آنذاك في إسبانيا، مثل روايةِ ''باراديسو'' للكوبي خوسي ليثاما ليما، والتي كلفه السماحُ بنشرها عقوبةً إداريةً.
توزّعت انشغالات إيرنانديث بين الفكر والفلسفة وعلم النفس والتاريخ والأدب. وفضلا عن أنه إحدى العلامات البارزة في الفكر الإسباني المعاصر، فقد شكّل، بمعية باحثين آخرين، إحدى أكثر الحلقات الفكرية تأثيرا وإضاءة داخل الاستعراب الإسباني، حيث انكبّ بالبحث والتحليل على الإرث الفكري والعلمي لكوكبة من رموز التراث الفكري العربي الإسلامي، كالفارابي وابن سينا وابن حزم والغزالي وابن طفيل وابن رشد وصدر الدين الشيرازي وابن خلدون وغيرهم. ولا غرو أن يرى فيه كثيرون امتدادا خصبا لمدرسة المستعرب الإسباني الشهير ميغيل آسين بَلاثيوس.
ويظل مصنّفه الضخم ''تاريخ الفكر في العالم الإسلامي''، في ثلاثة أجزاء (صدرت ترجمة عربية له أنجزها عبد العال صالح عن المركز القومي للترجمة في القاهرة) أحد المراجع الغربية التأسيسية في مبحث الفكر الإسلامي، من حيث غزارة مادته العلمية وسعة تحليله وشمولية إحاطته بإشكالات هذا الفكر وقضاياه الرئيسية. وقد أنفق إيرنانديث في تأليفه سنواتٍ طوالا باحثا ومنقبا في هذا الفكر على ما في مكوناته وروافده من تنوع، فتناول السياقَ الثقافي والاجتماعي لظهور الإسلام، والجذورَ السياسية للخلاف السني الشيعي، ونشوء علم الكلام والتصوف والفلسفةِ الإسلامية، من دون أن يغفل حركة الفكر في الغرب الإسلامي، كما لم يفُته التطرق إلى إشكالات عصر النهضة والكيفيات المتباينة التي واجه بها الفكرُ العربي والإسلامي صدمةَ الحداثة وتداعياتها على الاجتماع العربي والإسلامي المعاصر طوال القرنين المنصرمين.
لا تتأتى أهمية هذا المصنّف، فقط من كونه أحد المراجع التي لا غنى عنها لكل باحث ومهتم بمبحث الفكر الإسلامي الوسيط، بل تتأتى، كذلك، من أنه يمثل ذروة النضج الفكري والفلسفي لإيرنانديث.
علاوة على ذلك، أفرد إيرنانديث حيزا من انشغالاته للفيلسوف الأندلسي ابن رشد، فخصّه بكتاب ''ابن رشد، حياته، آثاره، فكره وتأثيره'' (1986)، تناول فيه تأثيره في الفلسفة والفكر الأوروبييْن. ولا يعود اهتمام إيرنانديث بابن رشد لمكانة الأخير في التراث الفكري العربي الإسلامي فقط، بقدر ما يعود، أيضا، إلى اهتمام فطري لديه بالثقافة الأندلسية التي كان يعتبرها كونيةَ الأفق بحكم تنوع روافدها. وقد كان ابن رشد أحد رموزها المضيئة وأكثرها حضورا، ومن هنا دلالةُ وصف إيرنانديث ابنَ رشد بالأندلسي الكوني، في إحدى دراساته عنه.
يدين مبحث الفكر الإسلامي الوسيط بالكثير لميغيل كروث إيرنانديث. وبوفاته يكون الاستعراب الإسباني قد فقد أحد أقطابه الكبار وأكثرهم جدّة وموضوعية في تناول قضايا هذا الفكر، قديمها وحديثها، دارسا وشارحا ومجتهدا.
دلالات