في وداع سعيد وشريف كواشي

20 يناير 2015

سعيد وشريف كواشي يتيمان التبست الحياة عليهما

+ الخط -

احتل ضحايا "شارلي إيبدو"، وما يزالون، كل الصحف والضمائر والنقاشات، في العالم كله، ولم تفرد للقاتلين أية مساحة. كان يكفي تسميتهما لكي يقول اسماهما كل ما يعنينا اللحظة: إنهما من أصول عربية، إنهما مسلمان، وإنهما قاتلان. نقطة على السطر. لم يكونا، في ذروة اللحظة المأساوية، يستحقان أي اهتمامٍ فردي، وهما، حتى حين حضرا في الأيام التي تلت الجريمة، عبرا عبوراً طيفياً، عرضياً، وبالقلّة التي لا تزعج أهل الضحايا، أو التي تستدعي أسئلةً لطالما خشيت الجمهورية الفرنسية طرحها أو مواجهتها.
أما الآن، وقد قُتل القاتل، وأسدلت الستارة على الجريمة النكراء التي ارتكبها، فلا بأس من استعادة جثمانه، ومنحه حق أن يدفن، كما يليق بكل إنسان. ولأننا كما أرى "أهل القاتل"، أستعيد الآن وجهَي شريف وسعيد كواشي، وقد أغلقت أعينهما، ورُفع لثامهما، ونـُزعت أسلحتهما، وما عادا يشكلان تهديداً لأي كان. أفكّر ما الذي تراه حدث، بعد أن رفعت جثتاهما وأين تراهما دفنا؟ هل وجدا من يغسلهما ويقرأ عليهما، أم أنهما وضعا هكذا، بدمائهما المتخثرة، والرصاص الذي ثقب جسديهما، والتراب الذي تعفّرا فيه حين سقطا وجرجرا على الأرض، داخل تلك الأكياس البلاستيكية الباردة التي تسهّل نقل القتلى من دون رؤية ملامحهم، أو الاتساخ بدمائهم، ليُلقيا من ثم في إحدى الحفر، حيث يُقبر الفقراء ويتامى الحياة.
لم يكن لشريف وسعيد أم أو أب ليبكياهما. كانا يتيمين، عاشا طفولتهما مع أم عزباء ولدت خمسة أطفال من أكثر من والد. ذات يوم، عادا من المدرسة ظهراً إلى بيتهما، ليجدا أمهما جثة هامدة. قيل إنها انتحرت بابتلاع كمية من الحبوب، لأنها كانت حاملاً في شهرها السادس، وما عادت قادرة على إعالة أطفالها. وقيل إن العوز أوصلها إلى ممارسة البغاء، هي التي لم تطلب يوماً أية مساعدة اجتماعية. وبما أن الأب أو الآباء غائبون أو مجهولون، فقد غادر الولدان البالغان 10 و12 عاماً منزلهما في باريس، ليوضعا في رعاية مؤسسة اجتماعية.
تقول ناشطة اجتماعية فرنسية جاورت وقاربت الولدين صغيرين، "كان شريف، وهو الأصغر، ولداً شقياً، في حين كان أخوه سعيد بكّاء وخجولاً... كنت أحب شريف كثيراً، إذ كان يكفي أن تلاطفه وأن تحتضنه، حتى يهدأ... كان طفلاً كالآخرين، يحب أفلام ديزني، ويستكين حين يحظى بالحنان".
وفي مقابلة أجريت مع سيغولين فينسون، إحدى الصحافيات الناجيات من جريمة "شارلي إيبدو"، قالت إنها، وفيما كان إطلاق الرصاص جارياً على زملائها، تمكنت من الانزلاق والاختباء. لكن القاتل (سعيد) وجدها، وحين بحلقت فيه جزعة، راح يطمئنها إلى أنه لن يقتلها "لأننا لا نقتل النساء". قالت هذا ثم أردفت، "نظرت إليه، كانت عيناه واسعتين سوداوين وصوته وديعاً"!
وفي الريبورتاج المصور الذي بثته التلفزيونات عن ماضي شريف كواشي، رأيناه شاباً متبسماً على حياء، يرتدي زيّ من هم في عمره، ويحاول أن يشق طريقه في غناء الراب.
شابان فرنسيان من أصول عربية مهاجرة، عاشا غصباً عن الحياة، فناكفتهما وهما يتقدمان من غير بوصلة، من غير عتاد. أهانهما الفقر واليتم والإقصاء، إلى أن وجدا عائلة لهما في الجهاد الإسلامي، وجدا صوتاً، اعتباراً، ما يشبه الرتبة والهوية، ومعنى لحياتهما. ترقيا سريعاً، صارا أصحاب قضية، محاربين ينتقمان للرسول، لأبيهما الأكبر الذي حل مكان أبيهما المفقود. ذهبا سوياً، كأخوين محاربين للانتقام لشرف عائلتهما التي خاطباها، وأعلماها من موقع الجريمة، أنهما أنهيا مهمتهما، ثم سقطا أخوين لا يفرق الموت بينهما، هما اللذان خرجا لكي لا يعودا.
يتيمان. التبست الحياة عليهما. ما كانا يحتاجان أكثر من حضن، أب، نظرة اعتبار ومؤازرة. فقط لو أن الجمهورية الفرنسية التي ينتميان إليها كانت عائلتهما، فقط لو أن... لو... ربما.


 

دلالات
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"