في وداع أحمد خالد توفيق

11 ابريل 2018
+ الخط -
مثلما كان يروي البطل غير التقليدي قصصه المرعبة، في وقت متأخّر من الليل؛ لكي يتأكّد من أنّ الصغار ذوي القلوب الضعيفة قد ناموا، ولم يبقَ سوى اليافعين واليافعات، من مُحبِّي المغامرات التي تحبس الأنفاس، فيبدأ بسرد مغامراته المرعبة مع أنفاسه التي تضيق؛ بسبب قلبه الواهن، وتدخينه، كقاطرة بخارية قديمة.
مثله تماماً، أختار وقتاً متأخّراً من الليل؛ لكي أكتب اعترافاتي، وذكرياتي، مع هذا البطل غير التقليدي، حين بدأتْ رواياتُ الجيب للشباب بالصدور، في ثمانينيَّات القرن الماضي، كنتُ مراهقةً ككلِّ المراهقات الباحثات عن فارس أحلامٍ خيالي، ولكن ليس كلُّ المراهقات يهويْنَ قراءة روايات المغامرات مثلي، ولكن أيضاً لم تروِ هذه الروايات تعطُّشي المستمر للغامض، واعتقادي دوماً أنّ الزمن يُخفي لي مفاجأة أكبر، حتى ظهرت رواياتُ "ما وراء الطبيعة"، لمؤلِّفها الدكتور أحمد خالد توفيق. كان ذلك في عام 1992، حيث وقعتُ، من الرواية الأولى، في غرام البطل غير التقليدي، كما قلت عنه، وهو العجوز الفاني الذي يواجه الرُّعب، في كلِّ مغامرةٍ. وفي كلِّ مغامرةٍ، كانت أنفاسي تتلاحق مع المعلومات الجديدة الطبية والعلمية والتاريخية والميتافيزيقية؛ حتى تحوَّل رأسي الصغير إلى موسوعة، وقاربتُ أن أصبح "طبيبةً من منازلهم" من فرط ما تعلَّمتُ؛ لأن المؤلّف طبيبٌ متخصصٌ في طبّ المناطق الحارّة.
لم أكن أعرف أنَّ الأقدار ستربطني بهذا الأدب الجديد على الشباب العربي، فالخروج من خانة البطل التقليدي، الوسيم الفارع الطول الذي يكيل اللكمات للأعداء، ثم يعيد تصفيف شعره، كان صعباً، لكن الأدب الذي قدَّمه الأديبُ الراحل أحمد خالد توفيق كان كذلك، والأعجب أنّ الشباب تعلّق بهذا البطل، وأداروا ظهورهم لنموذج البطل التقليدي، وأصبح البطل العجوز، رفعت إسماعيل، صديق ملايين القُرَّاء العرب في العالم، وظل يروي حكاياته لي ولهم؛ حتى قرَّر المؤلف أن يموت البطل، وينهي السلسلة في عام 2016.
في اعترافاتي الليليَّة، مثلما كان يفعل البطل العجوز، رفعت إسماعيل، أنني كنت أخجل في الحديث عن فارس أحلام امرأةٍ شابَّةٍ حديثة الزواج، وهو رجلٌ عجوزٌ في سنِّ أبيها، وعبارة عن أوراق وصورة مرسومة بريشة فنّانٍ على أغلفة كُتَيِّبات صغيرة، وربما اتَّهموني بالخيانة الزوجية، لكن الحديث عنه أصبح تحدِّيا، حين نلتُ "علقة ساخنة" من زوجي؛ بسبب هذه الكُتيِّبات. كنت وقتَها في الإسكندرية، وقد ابتعتُ أعدادا لا بأس بها من أكشاك بيع الكتب، في محطَّة الرمل، وكان عليَّ البحثُ عن طريقة لتهريبها؛ لكي أعود بها إلى الوطن، ففتحتُ بطانة إحدى الحقائب، ورصصتُ الكُتيِّبات فيها، كما يفعل المهرِّبون مع المخدِّرات، والدولارات، وسبائك الذهب. واعتقدت أنّ كنزي الثمين أصبح في مأمَن، حتى قرّر زوجي، في ليلة السفر أن يعيد ترتيب الحقيبة؛ فعثر عليها بسهولة، وهنا انهال عليَّ ضرباً؛ لأني لم أتوقَّف عن حُبِّي القراءة، على الرغم من أنني أصبحت أمًّا لعدَّة أطفال.
الكاتب أحمد خالد توفيق رفيق حياة القرَّاء الذين يدينون له بفضل حبِّهم القراءة، وحيث تعلَّم في مدرسته الجيلُ الجديد، من هُواة الكتابة مثلي، وتفرّد أدبُه ببساطته وغرابة عالمه، حتى بدأ يكتب مقالاته ورواياته التي تمسُّ الوجدان الإنساني؛ فأصبح كاتب الفقراء. ويُحسَب له أنّه لم يُحسَب على أيِّ تيَّار سياسي في مصر، وآثر أن يشكِّل الوعيَ السياسيَّ للشباب، بمقالاته التي ناصر فيها الفقراء. وقد تنبَّأ الراحل بالحال السيّئ الذي تمضي إليه مصر؛ ما أوهن قلبه الواهن، فكتب رواية "يوتوبيا"، والتي تناولت انقسام الشعب إلى طبقتين، اليوتوبيُّون والأغيار، وكيف يتلذَّذ الأغنياء بعذابات الفقراء. وبكلِّ صدق كان قلبه يوهن بسبب أوضاع وطنه، ويمضي إلى نهايته، وعلى الرغم من ذلك، ظل حريصاً على أن يكون أباً وقدوة لكلِّ أولاده وبناته، من القرَّاء والكتَّاب الجدُد. ولذلك تبدو كلُّ الكلمات فقيرة وظالمة في وداع ما امتلكْتَه بيدك، على مرِّ الزمان؛ لأنك تشعر الآن بفداحة ما خسرت.
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.