في نقد ما قد يحدث

18 أكتوبر 2015
شعفاط (تصوير: علاء غوشة)
+ الخط -

لسنا هنا في تحليل تفاصيل العقل الديكارتي المُشكّل لثقافة اللطف في رؤيوية "الرجل الأبيض/العالم"، كلطفِ الحكومات الديكتاتوريّة إذ تقدّمه أحياناً وتفاخر أنّه "إنسانيّة"، لكن، ما أود قوله عن استخدام حتّى وكالات الأنباء "الغربية" -ولو بلا سبب- للفظة "انتفاضة" بلسانها العربي، تلك الكلمة التي تبدأ من المكان الذي "ستنتهي به"، طالما يتمّ التعامل معها دائماً بعقلنة إغلاقيّة اللّفظ، أي، عندما تقول "انتفاضة" سيراود ذهنك السؤال الزمني المحدد: متى بدأت، متى انتهت أو ستنتهي.

وجب أن نفهم بدايةً أن كل "انتفاضة" هي نواةُ ثورةٍ لا منتهية أساساً في مضمونها، ثورةٌ مستمرّةٌ كصفةٍ دائمةٍ لشعب، ولأننا في صدد ما سمّي الآن بالترقيم القاتل أيضاً الذي يفسح المجال لما بعده: "انتفاضة فلسطين الثالثة/السكاكين".

ما قد يحدث أن ستحاول لاحقاً الحكومات الحالية والمتعاقبة في فلسطين المحتلة (سواء حكومات الاحتلال أو حكومات "السلطة الفلسطينية") البدء بتأكيد وتكرار وترسيخ أنّها "انتفاضة" مكرّرة حدثت كردّ فعل على مُسبّبٍ ضئيلٍ ما، ثمّ ستحاول إخمادها بشتّى السبل والوسائل تحت ذرائع سياسيّة لطيفة وكاذبة، منها تجنّب العنف وحقن الدماء. أو مثلاً لأجل الدخول في دوامةٍ بلا قيمة من مفاوضات محمود عبّاس الواهية التي حتّى لم تعد من الأخبار المهمّة لدى وكالات الأنباء والإعلان، تماماً كخبر رفعه للعلم الفلسطيني في مقر الأمم المتحدة قبل أشهر مع قالب من الحلوى.

قد يحدث اضطراب خطابيّ لدى بعض القِوى كفتح أو حماس أيضاً، هو الإيهام المستمرّ بوجود مباحثاتٍ دوليّة لهيئاتٍ تنفيذية ضخمة تستوعب ما يجري وتعمل على إيجادٍ حلٍّ سياسي يشمل إقامة دولتين وإقامة السلام العادل والشامل وما لحق ذلك ممّا بات يحفظه الصحافيون غيباً ثم يحملون اللقب البطولي "باحث في الشؤون الفلسطينية".

بات الأمر يشبه طريقة التعاطي الباردة مع ما تسوقه وكالة "ناسا" عن قرب اصطدام كويكب بالأرض، تنشر ناسا الخبر عدة مرات كل عام، حجم التصديق لا يتعدى نكتة هنا أو فتوى هناك. الشأن الفلسطيني الذي جعلوه مستقرّاً داخل إطار هذا التهميش، يقدّم الكثير لضمان بقاء سلطة الاحتلال الإسرائيلي.

تجارة الوهم في مصطلحاتٍ مثل حقن الدماء، حل الدولتين، مباحثات، مفاوضات، إلخ، كلّها تفترض حقاً مقسوماً بانتصاف وقوى متوازنة ورغبات دينية مشتركة على أرض واحدة، وهذا غير صحيح، لكن، من مصلحة الاحتلال أن يرتكز على كل هذا كما على "مظلوميّته" من هرطقاته الدينية مقابل تغذية شعار "تحرير القدس". وجب أن نقول تحرير فلسطين من الصهاينة، لا تحرير الدّين من الدّين، والذي يصير، وصار، حرباً بلا معنى.

مسافةٌ صفريّةٌ مرات، وهائلة مرات أخرى، بين الانتفاضة، والثورة، وهناك من سيوجّهُ دائماً، لأن تكون هائلة، ثمّ أن تخمد. هل حقّاً سببُ الثورة في فلسطين هو دهسُ طفلٍ ما؟ أو اعتقال ناشطٍ ما؟ وهل حقّاً يحتاج الشأن الفلسطيني لمحرّض كما للشروح والتفكيك والتشريح ووجود آلاف الدارسين والمتحدثين الذين يكررون دائماً ذات الكلام "اللقاح" تحت مسمى "اهتمام بالشأن الفلسطيني"؟ هل يحتاج الفلسطينيون لمن يشرح لهم أرضهم؟ هل يحتاج العالم، وبعد كل ثورة، وقبلها، لمن يترجم ويشرح له فلسطين؟

خللٌ هائلٌ أن نبحث في أسباب الانتفاضة/الثورة، وجود سلطة الاحتلال الإسرائيلي سبب كافٍ للنضال المتواصل والثورة المستمرّة ولو لم يقم أحدهم بدهس أحدهم، خللٌ هائلٌ أيضاً أن ننسى أنّنا نتكلّم عن شعب يعاني احتلالاً دائماً شاملاً جغرافيّاً وعسكرياً وسياسياً وثقافيّاً ويتعرّض لأقسى أنواع القتل البطيء في كل ما يكوّن شكل حياة طبيعي ومواطنة طبيعية.

الانحراف العام، الذي يعانيه العقل السياسي العالمي الحالي، سيغمض العين عن اسرائيل وفظائعها، ثم سيبرر مثلاً، وقوف البعض ضد طعن الصهاينة بالسكاكين، لأن هذا حسب ذريعتهم عنفٌ لا يقدّم حلاً كما لم تقدّم الحجارة سابقاً.

ما الحل إذاً؟ سؤال يبدو كاّنه المستحيل الذي سيغيّر الخرائط، لكنه ليس كذلك، على الأقل، لا ينبغي أن يقول مستوطن ما: هذا المكان جيد للاستقرار، سأنجب أطفالاً هنا. لا ينبغي أن يتوقف الذعر الإسرائيلي، من أمٍ، تحمي أطفالها.

الحزن فقط على من خسر حياته، في فوضى لا تفعل إلا أن تتّسع، في مباحثات الشأن الفلسطيني، المديدة. والسعادة، أن الثورات، كلّها، التي حدثت مطلع هذا القرن، يحمل شبابها دماءً فلسطينية، حتى ولو لم يقربوها يوماً، وها هي فلسطين الآن، حيّة، والثورة فيها أيضاً، حيّة، ومستمرّة.


(كاتب سوري/ إسطنبول)


اقرأ أيضاً: تسييس المعاناة وخصخصة الذاكرة

المساهمون