09 ديسمبر 2014
في نقد اليسار الستاليني الفلسطيني
برزت، في الفترة الأخيرة التي تميزت ببهرجة احتفالية من الفصيلين الفلسطينيين الحاكمين، تصريحات تعبر عن عدم رضا بعض فصائل "اليسار الستاليني"، وبالذات تنظيمي الجبهتين، الشعبية والديمقراطية، عن طريقة إعلان المصالحة، ورفضهما الدخول في مشاورات تشكيل الحكومة التي أُعلن عنها، بما في ذلك ترشيح أي شخصيةٍ مستقلةٍ للعمل ضمن هذه الحكومة، وصدر أكثر من تعليق من قيادات في التنظيمين، وصفت الاجتماعات بين حركتي حماس وفتح بأنها "اجتماعات محاصصة"، ويعتقد بعضهم أن هكذا مواقف، وإن كانت تبدو في الظاهر راديكالية، إلا أنها تأتي استمراراً لعملية التدهور السياسي، وحتى الأيديولوجي، الذي يعاني منه ما تبقى من "اليسار" الستاليني في فلسطين. وأميل، هنا، إلى التمييز بين اليسار الفلسطيني ما قبل "أوسلو" وما أسميه "اليسار" الأوسلوي المتأنجز، والذي بدأت ملامحه تتشكل بعد عام 1993.
لفهم الأسباب التي تقف خلف التدهور السريع لليسار الستاليني الفلسطيني، خصوصاً بعيد توقيع اتفاقيات أوسلو، نحتاج للتدقيق ولفهم مواقف اليسار المعلنة في فلسطين. فالتصريحات التي أدلى بها قادة عديدون توضح أن الموقف الذي اتخذته كان الاصطفاف إلى جانب التيار اليميني داخل حركة فتح، مع معارضة شكلية، لم تتطور إلى خطواتٍ عمليةٍ تخلق تحدياً ملموساً للواقع الذي أحدثته الاتفاقيات. وذلك كله، على الرغم من الأجندة المغرقة في يمينيتها التي تبناها ذلك التيار في "فتح"، ووضع معظم، إن لم يكن كل، أوراقه في السلة الأميركية. وما عدم اتخاذ اليسار موقفاً عملياً ضاغطاً على السلطة الوطنية، بعد قرار العودة إلى المفاوضات التطبيعية تسعة أشهر، ومواقفها المتكررة المتنكرة لحق اللاجئين بالعودة، وموقفها الثابت من التنسيق الأمني "المقدس"، إلا أن أمثلة تشير إلى توجه يميني مسيطر على قمة سلم التيار الستاليني.
مواقف غير ديمقراطية
هذا الانقلاب اليميني في المواقف من اليسار الفلسطيني ليس مستعجباً أو غريباً، فتاريخياً أنتج اليسار الستاليني أنظمة ومواقف غير ديمقراطية، هذا إن تحدثنا بصفة عامة، أو خاصة، فيما يتعلق بأجندته بخصوص فلسطين. ويعود عدم تقبله الديمقراطية إلى أنه نتاج الأيديولوجيا الستالينية، والتي بناء عليها، لم يقبل حزب الشعب (اعترف بإسرائيل لحظة إعلان "استقلالها" باعترافه بقرار التقسيم العنصري) والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين (تقدمت بالبرنامج المرحلي، الأب الروحي لحل الدولتين العنصري)، نتائج انتخابات يناير/كانون ثاني 2006 التي سُمح فيها لثلث الشعب الفلسطيني بالتصويت لمجلس تشريعي جديد، يمثل سكان الضفة الغربية وقطاع غزة فقط.
نستطيع القول إن اليسار الفلسطيني مرّ بعملية "أسْلَوَة" في العشرين عاماً الماضية، ذلك أن الانتهازية والمواقف اللامبدئية التي اتخذها "اليسار" اليميني في منظمة التحرير تدل على التدهور التاريخي الذي وصل إليه، نتيجة قبوله الضمني باتفاقيات أوسلو، على الرغم من ادعائه معارضتها، كما التيار الديني السائد، الممثل في حركة حماس التي انتهت بقبول شروط الرباعية المبنية على أسس تلك الاتفاقية، في الموافقة على حكومة "التوافق الوطني". وفي الحقيقة، لم يعارض حزب الشعب اليساري الاتفاقيات المذكورة، بل شرعنها، عندما قبل مناصب وزارية تقريباً في كل حكومةٍ، تشكلت منذ تأسيس السلطة الفلسطينية. وبقراءةٍ سريعةٍ لتحليلات الفصائل اليسارية وبياناتها والقائمين عليها، يمكننا القول إنه، وعلى الرغم من الرصيد الثوري التاريخي الغني لليسار، فان مجموعات يمينية اختطفته، تتقاطع مصالحها مع المصالح الطبقية للنخبة السياسية الأوسلوية، وتنصاع لشروط ممولي المنظمات الأهلية التي بدأت ملء الفراغ الذي تركه اليسار.
وبدلاً من مراجعة حساباتها وأسباب هزيمتها من خلال عملية نقد ذاتي ضروري، راحت القوى اليسارية تحاول السيطرة على امتيازاتٍ هنا وأخرى هناك، وتجاهلت الحقيقة المكشوفة للجنرال الأميركي، كينيث دايتون، وخطته المعلنة لاستخدام بعض قوى الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، لضرب حكومة حماس التي فازت في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، وتقويض ما اعتبر في وقتها "الخيار الديمقراطي" للجماهير، إلا أن اليسار الذي تم تفريغه من مضمونه وبرنامجه الثوري، كنتاج لارتباطه بالسلطة نفسها، عاد إلى المرجعية الستالينية لرفض نتائج الانتخابات التي كشفت وزنه الحقيقي في أراضي الـ67. وعلى الرغم من صعوبة فهم كيف يمكن لأمة أن تخوض عملية ديمقراطية، في ظل احتلال شرس وأبارتايد عنصري واستعمار استيطاني، فقد اعتقدنا، وإن بسذاجة، أن اليسار الفلسطيني والقوى الليبرالية يمكنها أن تنتهز فرصة ما تم ترويج أنه بداية عملية ديمقراطية جرت عام 2006 لكي تخوض عملية دمقرطة حقيقية لأحزابها ومؤسساتها والمجتمع الفلسطيني بشكل عام. وبالطبع، لم يحدث شيء من ذلك، وتهاوت الشعارات الذي رفعتها هذه الأحزاب طويلاً "من الجماهير وإليها" "وتمثيل القوى الكادحة"، وأفرغت من مضمونها لتصبح مجرد كلمات جوفاء بغير مضمون ثوري حقيقي.
وبدلاً من أن يوجه اليسار طاقاته لمحاربة نتائج اتفاقيات أوسلو، وخصوصاً بعد انتخابات 2006، وبدلاً من احترام نتائج هذه الانتخابات وقراءتها على أنها رفض كاسح لهذه الاتفاقيات والتنسيق الأمني وحل الدولة/البانتوستان، وبدلاً من أن يتعلم من أخطائه وفشله في إيجاد البديل الضروري لقوى اليمين الفائزة، تبنى الوسائل غير الديمقراطية نفسها التي انتهجها اليمين العلماني الحاكم في مواجهة خصومه السياسيين، وفشل في هذا الاختبار التاريخي.
غياب البرنامج الثوري
انعدام البرنامج الثوري وحده السبب الذي يمكن أن يفسر تأييد تلك القوى التيار اليميني المهيمن على منظمة التحرير، وبالتبريرات السفسطائية، وأحياناً العدمية، وانعدام التوجه النقدي الخلاق في تحليل الأحداث في قطاع غزة، أصبح موقف اليسار واضحاً: الوضع في غزة هو نتاج سياسات حماس التي انتخبها ديمقراطياً غالبية سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، من دون الإشارة إلى الدور الذي لعبه الجنرال الأميركي دايتون. وبذلك، غابت المادية التاريخية، وغاب الخطاب المعادي للإمبريالية. الخطب الرنانة فارغة المضمون تحولت إلى سلاح لا تستخدمه فقط "الأنظمة العربية الرجعية"، بل تبني سياستها "اليسار"!
هذا، بالضبط، أحد أهم ملامح عملية "أسلوة اليسار"، أي خليط من الفساد والاتجار بالمبادئ الثورية والشعارات. فالهدف النهائي لهذا الشلال من الدماء الذي يقدمه الشعب الفلسطيني هو إقامة دويلة فلسطينية، بأي بعد كان، مثل نموذج حل الدولتين العنصري الذي يفشل في تفسير كيف يمكن ضمان عودة أكثر من ستة ملايين لاجئ فلسطيني إلى ديارهم التي هجروا منها داخل إسرائيل الآن، مع قيام دولة فلسطينية، في الوقت نفسه، على أقل من 22% من أرض فلسطين التاريخية! أما حل الدولة الديمقراطية الواحدة، كما حصل في جنوب إفريقيا، فهو بالنسبة لليسار الفلسطيني مجرد خيار "طوباوي" بعيد المنال، كما صرح قادة عديدون، وفي الوقت نفسه ادعاء الريادة في طرح حل الدولة الديمقراطية العلمانية حلاً استراتيجياً، مع عدم القدرة على رؤية التناقض الجذري الداخلي في هكذا طرح، أي البانتوستان، مقدمة لدولة ديمقراطية!
وفشل اليسار الذي عانى سنوات من الإقصاء، منذ سيطرة حركة فتح على اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، في تفسير كيفية إعادة هيكلة المنظمة، لتضمن حركات ذات قواعد شعبية كبيرة، مثل حماس والجهاد الإسلامي، في وقت تنهب فيه منظمة التحرير بواسطة الأشخاص أنفسهم الذين تحكموا فيها منذ أكثر من 40 عاماً، والذين هم بالمناسبة أعوان اليسار وحلفاؤه. ولم يتقدم هذا "اليسار" حتى بخطط، أو أطروحات، لإعادة اللحمة ما بين غزة والضفة الغربية باستثناء "عودة الأمور إلى وضعها قبيل حزيران 2007". ولم يبد أي شكل عملي من أشكال المعارضة للتنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وجيش الاحتلال في الضفة الغربية، كما أسلفنا.
***
يرى الخطاب السياسي السائد في فلسطين اتفاق أوسلو، ومؤسسة السلطة الفلسطينية النابعة عنه، على أنهما المسار السياسي الوحيد المؤدي إلى دولة فلسطينية؛ وقد فقد هذا التحليل الإيمان بقدرة الشعب الفلسطيني على استعادة أرضه، ويعتمد، بدلاً من ذلك، على كرم الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي والأنظمة العربية الرجعية للوصول إلى هذه الدولة السراب. فإذا لم يكن اليسار الفلسطيني قادراً على تطوير برنامج ثوري بديل وهيكلته، والتخلص من خرافات حل الدولتين، فعليه أن يتعايش مع ثنائية حماس -فتح وقتاً قد يطول.
نعي الاختلافات والفروق بين قوى اليسار نفسها، لكننا معنيون بقوة بمواقف الجناح الذي يفترض أنه الأكثر راديكالية، ونعني به الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ففي أغلب بياناتها ومقابلات قياداتها، عبرت الجبهة عن موقف غير ديمقراطي، في مغازلتها الحكومة غير المنتخبة في رام الله وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية الهرمة. وفي زعمها أنها تتخذ موقفاً وسطياً، لم تعبر عن قصر نظر سياسي فحسب، بل عبرت بوضوح عن موقف انتهازي.
لم يتحدث أي زعيم من الجبهة الشعبية في الضفة الغربية وقطاع غزة عن الجنرالات الأميركيين ودورهم في الصراع الدموي الذي حصل في غزة. وفي الحقيقة، عبر الأمين العام المساعد السابق للجبهه الشعبية لتحرير فلسطين، عبد الرحيم ملوح، بكل وضوح، وفي بياناته ولقاءاته عبر تلفزيون فلسطين، الأداة الدعائية الأهم لليمين الفلسطيني، عن لومه حماس وتحميلها المسؤولية الرئيسية عما جرى في غزة. واتخذ قادة الجبهة في غزة الموقف نفسه، إذ يبدو أن أياً منهم لم يطلع على مخططات الجنرالات الأميركيين في التحضير لأحداث 2007 الدموية. كما أن اليسار نفسه لم يبد أي معارضة عملية، سوى بيانات إنشائية للممارسات القمعية، ذات الأجندة الاجتماعية الرجعية لحكومة حركة حماس في قطاع غزة.
لم يرتق اليسار الفلسطيني، في هذه المرحلة الحاسمة، إلى مستوى مهمته التاريخية: تلك المهمة التي يجب أن تتخذ من المقاومة والديمقراطية وحقوق الإنسان مصابيح لإنارة الطريق على درب الحرية. فشل اليسار، ولم يتبق منه إلا فن الخطب البلاغية التي لا تعبر عن التراث الغني لقادته، ومناضليه التاريخيين الذين أحدثوا تغييرات راديكالية على مفاهيم النضال، ليس محلياً فقط، بل ودولياً أيضاً، فقد رحل من كان عن حق حكيماً للثورة، وكانت له رمزية هائلة، يبدو أن اليسار فقد بوصلته الموجهة. انه، وبعبارة أخرى، عاجز عن التكيف مع الوقائع الجديدة. والعبء الثقيل لميراث الستالينية ما زال يكتم أنفاس اليسار العربي، بشكل عام، واليسار الفلسطيني خصوصاَ؛ وهذا واحد من الفروق الأساسية بين اليسار العربي/الفلسطيني واليسار في أميركا اللاتينية.
حاجة ملحة جداً
يحتاج اليسار، وبشكل ملحّ جداً، أن يقدم تحليله للواقع الحالي في فلسطين، وكذلك برنامجه البديل. ولا شك أن مشاركة اليسار في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني 2006 قد أضفت الشرعية عليها، ونتيجة لذلك، أعطت الشرعية لاتفاقيات أوسلو، من حيث أن الانتخابات تأخذ مرجعيتها القانونية من تلك الاتفاقيات. وفي هذا السياق، كنت قد ناقشت أن مبدأ "الانسحاب من المشاركة" يحتاج استعادة قوته الأيديولوجية التي يتم الزعم أنها فُقدت. فالانسحاب من المشاركة يعني الطعن في شرعية النظام السائد حالياً، كما تعني طرح بدائل/إمكانيات أخرى. فالمشاركة بالترشيح تعني إضفاء الشرعية لأسباب براغماتية. والزعم أن انتخابات المجلس التشريعي تعبير عن التعددية هو تزوير أيديولوجي فج، فالتعددية لا تستثني أفكاراً مهما كانت، وبالتالي لا تستثني ثلثي الشعب!
يتوجب على التنظيمات اليسارية أن تحلل، جدلياً، هذه اللحظة المحدَّدة من تاريخ نضال التحرر الوطني الفلسطيني. فما هي مساهمتهم، على سبيل المثال، في الجدل المتزايد حول حل الدولة الديمقراطية المدنية الواحدة؟ إذا كان معظم منظريهم قد توصّلوا، أخيراً، إلى استنتاجٍ، ظهر منذ زمن طويل، أن حل الدولتين انتهى منذ فترة طويلة، بفضل السياسة الإسرائيلية الاستيطانية في الضفة الغربية وجدار الفصل العنصري وضم القدس الشرقية، فما هو بديلهم؟ وأين الخطاب البديل الذي يتحدى حل الدولتين العنصري؟
يستطيع المرء أن يفهم عجز التيار الديني السائد عن طرح بديل ثوري، لعجزه الفكري وبنيته الأيديولوجية الإقصائية. ولكن، على من يدعي "اليسارية" أن يكون قادراً على طرح هكذا بديل، بعيداً عن مكاتب السلطة والأجهزة. ألم يكن هذا محور كتابات غسان كنفاني الفكرية، والتراث الذي تركه أيقونة النضال الثوري تشي جيفارا؟ علاوة على ذلك، على المنظمات اليسارية أن تبدي اهتماماً أكبر في دعم حملة مقاطعة إسرائيل (BDS) التي أطلقها ما يزيد عن 170 منظمة في عام 2005، ودعمتها منظمات مجتمع مدني من كل العالم، اليسارية منها خصوصاً، لأنها تمثل بديلاً تقدمياً متحدّياً الوضع الحالي.
***
ننشد الآن يساراً جديداً متحرراً من ميراث "أوسلو"، يساراً قادراً على تقديم البديل الديمقراطي لحل الدولتين العنصري. وفقط مع قوى المقاومة الشعبية الأخرى، وبالتعاون الاستراتيجي مع حملات التضامن والمقاطعة الدولية، والقوى العالمية المهمشة اجتماعياً، يستطيع هذا اليسار الجديد أن يشكل جبهة متحدة في مواجهة قوى الامبريالية والصهيونية.
لفهم الأسباب التي تقف خلف التدهور السريع لليسار الستاليني الفلسطيني، خصوصاً بعيد توقيع اتفاقيات أوسلو، نحتاج للتدقيق ولفهم مواقف اليسار المعلنة في فلسطين. فالتصريحات التي أدلى بها قادة عديدون توضح أن الموقف الذي اتخذته كان الاصطفاف إلى جانب التيار اليميني داخل حركة فتح، مع معارضة شكلية، لم تتطور إلى خطواتٍ عمليةٍ تخلق تحدياً ملموساً للواقع الذي أحدثته الاتفاقيات. وذلك كله، على الرغم من الأجندة المغرقة في يمينيتها التي تبناها ذلك التيار في "فتح"، ووضع معظم، إن لم يكن كل، أوراقه في السلة الأميركية. وما عدم اتخاذ اليسار موقفاً عملياً ضاغطاً على السلطة الوطنية، بعد قرار العودة إلى المفاوضات التطبيعية تسعة أشهر، ومواقفها المتكررة المتنكرة لحق اللاجئين بالعودة، وموقفها الثابت من التنسيق الأمني "المقدس"، إلا أن أمثلة تشير إلى توجه يميني مسيطر على قمة سلم التيار الستاليني.
مواقف غير ديمقراطية
هذا الانقلاب اليميني في المواقف من اليسار الفلسطيني ليس مستعجباً أو غريباً، فتاريخياً أنتج اليسار الستاليني أنظمة ومواقف غير ديمقراطية، هذا إن تحدثنا بصفة عامة، أو خاصة، فيما يتعلق بأجندته بخصوص فلسطين. ويعود عدم تقبله الديمقراطية إلى أنه نتاج الأيديولوجيا الستالينية، والتي بناء عليها، لم يقبل حزب الشعب (اعترف بإسرائيل لحظة إعلان "استقلالها" باعترافه بقرار التقسيم العنصري) والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين (تقدمت بالبرنامج المرحلي، الأب الروحي لحل الدولتين العنصري)، نتائج انتخابات يناير/كانون ثاني 2006 التي سُمح فيها لثلث الشعب الفلسطيني بالتصويت لمجلس تشريعي جديد، يمثل سكان الضفة الغربية وقطاع غزة فقط.
نستطيع القول إن اليسار الفلسطيني مرّ بعملية "أسْلَوَة" في العشرين عاماً الماضية، ذلك أن الانتهازية والمواقف اللامبدئية التي اتخذها "اليسار" اليميني في منظمة التحرير تدل على التدهور التاريخي الذي وصل إليه، نتيجة قبوله الضمني باتفاقيات أوسلو، على الرغم من ادعائه معارضتها، كما التيار الديني السائد، الممثل في حركة حماس التي انتهت بقبول شروط الرباعية المبنية على أسس تلك الاتفاقية، في الموافقة على حكومة "التوافق الوطني". وفي الحقيقة، لم يعارض حزب الشعب اليساري الاتفاقيات المذكورة، بل شرعنها، عندما قبل مناصب وزارية تقريباً في كل حكومةٍ، تشكلت منذ تأسيس السلطة الفلسطينية. وبقراءةٍ سريعةٍ لتحليلات الفصائل اليسارية وبياناتها والقائمين عليها، يمكننا القول إنه، وعلى الرغم من الرصيد الثوري التاريخي الغني لليسار، فان مجموعات يمينية اختطفته، تتقاطع مصالحها مع المصالح الطبقية للنخبة السياسية الأوسلوية، وتنصاع لشروط ممولي المنظمات الأهلية التي بدأت ملء الفراغ الذي تركه اليسار.
وبدلاً من مراجعة حساباتها وأسباب هزيمتها من خلال عملية نقد ذاتي ضروري، راحت القوى اليسارية تحاول السيطرة على امتيازاتٍ هنا وأخرى هناك، وتجاهلت الحقيقة المكشوفة للجنرال الأميركي، كينيث دايتون، وخطته المعلنة لاستخدام بعض قوى الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، لضرب حكومة حماس التي فازت في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، وتقويض ما اعتبر في وقتها "الخيار الديمقراطي" للجماهير، إلا أن اليسار الذي تم تفريغه من مضمونه وبرنامجه الثوري، كنتاج لارتباطه بالسلطة نفسها، عاد إلى المرجعية الستالينية لرفض نتائج الانتخابات التي كشفت وزنه الحقيقي في أراضي الـ67. وعلى الرغم من صعوبة فهم كيف يمكن لأمة أن تخوض عملية ديمقراطية، في ظل احتلال شرس وأبارتايد عنصري واستعمار استيطاني، فقد اعتقدنا، وإن بسذاجة، أن اليسار الفلسطيني والقوى الليبرالية يمكنها أن تنتهز فرصة ما تم ترويج أنه بداية عملية ديمقراطية جرت عام 2006 لكي تخوض عملية دمقرطة حقيقية لأحزابها ومؤسساتها والمجتمع الفلسطيني بشكل عام. وبالطبع، لم يحدث شيء من ذلك، وتهاوت الشعارات الذي رفعتها هذه الأحزاب طويلاً "من الجماهير وإليها" "وتمثيل القوى الكادحة"، وأفرغت من مضمونها لتصبح مجرد كلمات جوفاء بغير مضمون ثوري حقيقي.
وبدلاً من أن يوجه اليسار طاقاته لمحاربة نتائج اتفاقيات أوسلو، وخصوصاً بعد انتخابات 2006، وبدلاً من احترام نتائج هذه الانتخابات وقراءتها على أنها رفض كاسح لهذه الاتفاقيات والتنسيق الأمني وحل الدولة/البانتوستان، وبدلاً من أن يتعلم من أخطائه وفشله في إيجاد البديل الضروري لقوى اليمين الفائزة، تبنى الوسائل غير الديمقراطية نفسها التي انتهجها اليمين العلماني الحاكم في مواجهة خصومه السياسيين، وفشل في هذا الاختبار التاريخي.
غياب البرنامج الثوري
انعدام البرنامج الثوري وحده السبب الذي يمكن أن يفسر تأييد تلك القوى التيار اليميني المهيمن على منظمة التحرير، وبالتبريرات السفسطائية، وأحياناً العدمية، وانعدام التوجه النقدي الخلاق في تحليل الأحداث في قطاع غزة، أصبح موقف اليسار واضحاً: الوضع في غزة هو نتاج سياسات حماس التي انتخبها ديمقراطياً غالبية سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، من دون الإشارة إلى الدور الذي لعبه الجنرال الأميركي دايتون. وبذلك، غابت المادية التاريخية، وغاب الخطاب المعادي للإمبريالية. الخطب الرنانة فارغة المضمون تحولت إلى سلاح لا تستخدمه فقط "الأنظمة العربية الرجعية"، بل تبني سياستها "اليسار"!
هذا، بالضبط، أحد أهم ملامح عملية "أسلوة اليسار"، أي خليط من الفساد والاتجار بالمبادئ الثورية والشعارات. فالهدف النهائي لهذا الشلال من الدماء الذي يقدمه الشعب الفلسطيني هو إقامة دويلة فلسطينية، بأي بعد كان، مثل نموذج حل الدولتين العنصري الذي يفشل في تفسير كيف يمكن ضمان عودة أكثر من ستة ملايين لاجئ فلسطيني إلى ديارهم التي هجروا منها داخل إسرائيل الآن، مع قيام دولة فلسطينية، في الوقت نفسه، على أقل من 22% من أرض فلسطين التاريخية! أما حل الدولة الديمقراطية الواحدة، كما حصل في جنوب إفريقيا، فهو بالنسبة لليسار الفلسطيني مجرد خيار "طوباوي" بعيد المنال، كما صرح قادة عديدون، وفي الوقت نفسه ادعاء الريادة في طرح حل الدولة الديمقراطية العلمانية حلاً استراتيجياً، مع عدم القدرة على رؤية التناقض الجذري الداخلي في هكذا طرح، أي البانتوستان، مقدمة لدولة ديمقراطية!
وفشل اليسار الذي عانى سنوات من الإقصاء، منذ سيطرة حركة فتح على اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، في تفسير كيفية إعادة هيكلة المنظمة، لتضمن حركات ذات قواعد شعبية كبيرة، مثل حماس والجهاد الإسلامي، في وقت تنهب فيه منظمة التحرير بواسطة الأشخاص أنفسهم الذين تحكموا فيها منذ أكثر من 40 عاماً، والذين هم بالمناسبة أعوان اليسار وحلفاؤه. ولم يتقدم هذا "اليسار" حتى بخطط، أو أطروحات، لإعادة اللحمة ما بين غزة والضفة الغربية باستثناء "عودة الأمور إلى وضعها قبيل حزيران 2007". ولم يبد أي شكل عملي من أشكال المعارضة للتنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وجيش الاحتلال في الضفة الغربية، كما أسلفنا.
***
يرى الخطاب السياسي السائد في فلسطين اتفاق أوسلو، ومؤسسة السلطة الفلسطينية النابعة عنه، على أنهما المسار السياسي الوحيد المؤدي إلى دولة فلسطينية؛ وقد فقد هذا التحليل الإيمان بقدرة الشعب الفلسطيني على استعادة أرضه، ويعتمد، بدلاً من ذلك، على كرم الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي والأنظمة العربية الرجعية للوصول إلى هذه الدولة السراب. فإذا لم يكن اليسار الفلسطيني قادراً على تطوير برنامج ثوري بديل وهيكلته، والتخلص من خرافات حل الدولتين، فعليه أن يتعايش مع ثنائية حماس -فتح وقتاً قد يطول.
نعي الاختلافات والفروق بين قوى اليسار نفسها، لكننا معنيون بقوة بمواقف الجناح الذي يفترض أنه الأكثر راديكالية، ونعني به الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ففي أغلب بياناتها ومقابلات قياداتها، عبرت الجبهة عن موقف غير ديمقراطي، في مغازلتها الحكومة غير المنتخبة في رام الله وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية الهرمة. وفي زعمها أنها تتخذ موقفاً وسطياً، لم تعبر عن قصر نظر سياسي فحسب، بل عبرت بوضوح عن موقف انتهازي.
لم يتحدث أي زعيم من الجبهة الشعبية في الضفة الغربية وقطاع غزة عن الجنرالات الأميركيين ودورهم في الصراع الدموي الذي حصل في غزة. وفي الحقيقة، عبر الأمين العام المساعد السابق للجبهه الشعبية لتحرير فلسطين، عبد الرحيم ملوح، بكل وضوح، وفي بياناته ولقاءاته عبر تلفزيون فلسطين، الأداة الدعائية الأهم لليمين الفلسطيني، عن لومه حماس وتحميلها المسؤولية الرئيسية عما جرى في غزة. واتخذ قادة الجبهة في غزة الموقف نفسه، إذ يبدو أن أياً منهم لم يطلع على مخططات الجنرالات الأميركيين في التحضير لأحداث 2007 الدموية. كما أن اليسار نفسه لم يبد أي معارضة عملية، سوى بيانات إنشائية للممارسات القمعية، ذات الأجندة الاجتماعية الرجعية لحكومة حركة حماس في قطاع غزة.
لم يرتق اليسار الفلسطيني، في هذه المرحلة الحاسمة، إلى مستوى مهمته التاريخية: تلك المهمة التي يجب أن تتخذ من المقاومة والديمقراطية وحقوق الإنسان مصابيح لإنارة الطريق على درب الحرية. فشل اليسار، ولم يتبق منه إلا فن الخطب البلاغية التي لا تعبر عن التراث الغني لقادته، ومناضليه التاريخيين الذين أحدثوا تغييرات راديكالية على مفاهيم النضال، ليس محلياً فقط، بل ودولياً أيضاً، فقد رحل من كان عن حق حكيماً للثورة، وكانت له رمزية هائلة، يبدو أن اليسار فقد بوصلته الموجهة. انه، وبعبارة أخرى، عاجز عن التكيف مع الوقائع الجديدة. والعبء الثقيل لميراث الستالينية ما زال يكتم أنفاس اليسار العربي، بشكل عام، واليسار الفلسطيني خصوصاَ؛ وهذا واحد من الفروق الأساسية بين اليسار العربي/الفلسطيني واليسار في أميركا اللاتينية.
حاجة ملحة جداً
يحتاج اليسار، وبشكل ملحّ جداً، أن يقدم تحليله للواقع الحالي في فلسطين، وكذلك برنامجه البديل. ولا شك أن مشاركة اليسار في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني 2006 قد أضفت الشرعية عليها، ونتيجة لذلك، أعطت الشرعية لاتفاقيات أوسلو، من حيث أن الانتخابات تأخذ مرجعيتها القانونية من تلك الاتفاقيات. وفي هذا السياق، كنت قد ناقشت أن مبدأ "الانسحاب من المشاركة" يحتاج استعادة قوته الأيديولوجية التي يتم الزعم أنها فُقدت. فالانسحاب من المشاركة يعني الطعن في شرعية النظام السائد حالياً، كما تعني طرح بدائل/إمكانيات أخرى. فالمشاركة بالترشيح تعني إضفاء الشرعية لأسباب براغماتية. والزعم أن انتخابات المجلس التشريعي تعبير عن التعددية هو تزوير أيديولوجي فج، فالتعددية لا تستثني أفكاراً مهما كانت، وبالتالي لا تستثني ثلثي الشعب!
يتوجب على التنظيمات اليسارية أن تحلل، جدلياً، هذه اللحظة المحدَّدة من تاريخ نضال التحرر الوطني الفلسطيني. فما هي مساهمتهم، على سبيل المثال، في الجدل المتزايد حول حل الدولة الديمقراطية المدنية الواحدة؟ إذا كان معظم منظريهم قد توصّلوا، أخيراً، إلى استنتاجٍ، ظهر منذ زمن طويل، أن حل الدولتين انتهى منذ فترة طويلة، بفضل السياسة الإسرائيلية الاستيطانية في الضفة الغربية وجدار الفصل العنصري وضم القدس الشرقية، فما هو بديلهم؟ وأين الخطاب البديل الذي يتحدى حل الدولتين العنصري؟
يستطيع المرء أن يفهم عجز التيار الديني السائد عن طرح بديل ثوري، لعجزه الفكري وبنيته الأيديولوجية الإقصائية. ولكن، على من يدعي "اليسارية" أن يكون قادراً على طرح هكذا بديل، بعيداً عن مكاتب السلطة والأجهزة. ألم يكن هذا محور كتابات غسان كنفاني الفكرية، والتراث الذي تركه أيقونة النضال الثوري تشي جيفارا؟ علاوة على ذلك، على المنظمات اليسارية أن تبدي اهتماماً أكبر في دعم حملة مقاطعة إسرائيل (BDS) التي أطلقها ما يزيد عن 170 منظمة في عام 2005، ودعمتها منظمات مجتمع مدني من كل العالم، اليسارية منها خصوصاً، لأنها تمثل بديلاً تقدمياً متحدّياً الوضع الحالي.
***
ننشد الآن يساراً جديداً متحرراً من ميراث "أوسلو"، يساراً قادراً على تقديم البديل الديمقراطي لحل الدولتين العنصري. وفقط مع قوى المقاومة الشعبية الأخرى، وبالتعاون الاستراتيجي مع حملات التضامن والمقاطعة الدولية، والقوى العالمية المهمشة اجتماعياً، يستطيع هذا اليسار الجديد أن يشكل جبهة متحدة في مواجهة قوى الامبريالية والصهيونية.