في مركزية النضال الاجتماعي السياسي فلسطينياً

12 مايو 2020
+ الخط -
عرضت صحيفة العربي الجديد، في الآونة الأخيرة، مجموعة من المقالات القيمة لمجموعة من الكتاب، منهم معين الطاهر، سمير الزبن، إبراهيم فريحات، تحاول طرح مخارج عملية أو نظرية للانقسام الفلسطيني الراهن، بغرض البحث عن حل للمشكلات والمعضلات التي كبلت النضال التحرّري الفلسطيني في السنوات الأخيرة. حيث دار النقاش بشأن البرنامج السياسي والتحرّري، وآليات تنفيذ التغيير المنشود. وعلى الرغم من قناعة الكاتب هنا المطلقة بأهمية ومحورية الاتفاق (أو التوافق) على برنامج وطني يعبر عن جميع القطاعات والتجمعات الفلسطينية أينما كانت، إلا أننا بحاجة كذلك للتمعن في السؤال الدائر بشأن كيفية العمل على إقرار مثل هذا البرنامج اليوم في ظل الانقسام الفلسطيني، والتبعية الفصائلية السائدة على قواعد مصلحية فردية، وفي ضوء مسارعة إقليمية نحو التطبيع مع الاحتلال من بعض الدول، ومتاجرة دول إقليمية أخرى بالقضية والشعب الفلسطيني لصالح مكتسبات ذاتية لا تمت بأي صلة للقضية والشعب الفلسطينيين، إن لم نقل أنها تضرّ وتسيء لهما، وفي ظل مناخ دولي رسمي لا يولي أهمية تذكر لحقوق الشعوب المعرّضة للاضطهاد والظلم والإجرام الدائم والمستمر، كالذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني منذ أيام الانتداب البريطاني.
يصعب التعويل، في هذه المرحلة الصعبة، على دور خارجي في أي عملية تغيير فلسطينية جذرية، أو حتى إصلاحية، ولو كانت بسيطة، بحكم انسجام وتناغم الجسم السياسي الفلسطيني الراهن مع الظروف الإقليمية والدولية السائدة، كما يصعب الرهان على دور النخب الفلسطينية فقط بسبب محدودية قدراتها وإمكاناتها، الأمر الذي يحوّل الأنظار نحو الرهان على القوى الشعبية المنسية منذ زمن طويل، على الرغم من أنها صاحبة المصلحة المباشرة بالتغيير،
 والقوى الوحيدة التي لا يخشى من تلاعبها بالقضية لصالح مكتسبات شخصية تتعارض مع المصلحة الوطنية. لكن وعلى الرغم من أهمية الرهان على القوى الشعبية الفلسطينية تحديداً، إلا أن مهمة استنهاض العمل الشعبي وتوحيده في اتجاه محدد مهمة صعبة في ظل الوضع الفلسطيني المركب؛ أولاً بفعل الاحتلال؛ وثانيا نتيجة التشتت الجغرافي؛ وثالثا في ظل السلطات الاستبدادية المسيطرة في الدول المستضيفة للفلسطينيين؛ ورابعا بتأثير الانقسام السياسي الفلسطيني؛ وخامساً لتبعات التداخل النظري والعملي بين جميع الهياكل السياسية الفلسطينية؛ السلطة والمنظمة والتنظيمات السياسية.
وقد دفع هذا الأمر بعضهم إلى الاعتقاد بأن استنهاض القوى الشعبية وتوحيد نضالاته، أو تأطيرها بخدمة المصلحة الجماعية والعامة، تكاد تكون مستحيلة في غياب الدعم الخارجي الدولي أو الإقليمي؛ وليس أي دعم؛ بل دعم ذي قدرات مالية ولوجستية وسياسية ضخمة وكبيرة، قادرة على فرض هذا التوجه على الساحتين، الدولية والإقليمية. وهو ما قد يعيدنا إلى المربع الأول، المتمثل في ربط أي عملية تغيير فلسطيني بموافقة أو رعاية إقليمية أو دولية لها، بصورة تشابه الظروف التي سادت في مرحلة بناء منظمة التحرير، أو المرحلة التي انتقلت فيها قيادة المنظمة إلى فصائل العمل الوطني متمثلة بشخص ياسر عرفات في حينه.
لذا ومنعا لأي تعلق بأوهام التعويل على قوى خارجية، مهما كانت توجهاتها، وانطلاقا من الإيمان الكامل بأن الشعب هو حامل القضية الرئيسي، وربما الوحيد، من الضروري البحث في 
الوسائل المتاحة والممكنة لاستنهاض قوى الشعب الفلسطيني وتوحيدها أولاً، ومناصريه من الشعوب المناضلة من أجل لحرية والعدالة والمساواة ثانيا. وعليه، ذلك ممكن إن نجحنا في ربط النضال السياسي بنظيره الاجتماعي، عبر تسليط الضوء على جميع القضايا والمسائل الشائكة التي تعاني منها التجمعات الفلسطينية المتباينة جغرافيا، والتعبئة من أجل تغيير هذه الظروف، أو على الأقل التقليل من آثارها قدر الإمكان، من خلال نضال اجتماعي محدّد وواضح ومتكامل لا يغفل عن رؤية الصورة الكاملة. بمعنى أن من الضروري أن تنطلق التعبئة الشعبية اليوم من حقيقتين واضحتين، الأولى أن الشعب الفلسطيني هو محور القضية الفلسطينية وأساسها، وبالتالي فإن النضال الوطني الفلسطيني هو من أجل مصالح الشعب الفلسطيني الآنية والمستقبلية. وعليه، لا بد من تجسيد هذه القاعدة منذ الآن عبر العمل على تغيير الظروف غير الإنسانية وغير القانونية التي تأسر حياة الفلسطينيين أينما كانوا داخل فلسطين وخارجها، بالتوازي مع النضال من أجل إزالة المسبب الرئيسي للمأساة الفلسطينية، ممثلا بقوى الاحتلال الصهيوني.
تعبر الحقيقة الثانية عن محورية الترابط المنسي بين النضالين، الاجتماعي والسياسي، وعن أهمية النضال الاجتماعي في كسب ثقة الشارع الفلسطيني، بتجمعاته المتنوعة والمتباعدة، لصالح أي مجموعة سياسية جديدة، وبالتالي أي طرح سياسي، فعلى الرغم من أهمية تمثيل المصالح والحقوق الفلسطينية التاريخية في أي برنامج سياسي، إلا أنه سيبقى مجرد حبر على ورق، إن لم يثق الشعب بمصداقية الطرح ومصداقية الطارحين أيضا، وهو ما يساهم النضال الاجتماعي في إنجازه على أفضل وجه ممكن، من خلال تعرّف الشعب على مدى مصداقية هذه
 المجموعة أو تلك، من خلال تجارب ملموسة، كما يعطي مؤشرا على قدرتها على إدارة النضال الفلسطيني الاجتماعي بداية، والسياسي والتحرري لاحقا، بالإضافة إلى أنه يمثل أيضا اختبارا عمليا للقدرات التحليلية للأفراد والمجموعات، ومدى صحة استنتاجاتها وقراءتها الوقائع والمستجدّات المحلية الإقليمية والدولية، ومدى نجاحها في تطويعها بما يخدم مصالح الفلسطينيين، أو مدى قدرتهم على ابتكار أساليب نضالية جديدة، تتوافق مع المعطيات الخارجية الجديدة وتؤدي إلى نجاح النضال في تحقيق أهدافه الآنية المعلنة. إذ ينطلق النضال الاجتماعي السياسي من الظروف والحيثيات الاجتماعية التي تسببت في انتشار المظالم والمشكلات بين عموم الشعب، أو في منطقة جغرافية محدّدة، أو طبقة اجتماعية أو حتى فئة مهنية أو جندرية محددة، وتطرحها ضمن سياقها الاجتماعي والسياسي الأوسع، لتربط بين مجمل المشكلات المتباعدة جغرافيا، والمتنوعة فئويا، عبر عرض جذرها الواحد، وتقوم بتعبئة الشارع في مواجهته. لذا، النضال الاجتماعي السياسي هو نضال يعنى ويسعى إلى تغيير الظروف الراهنة، المناطقية منها والعامة، تماما كما يسعى إلى معالجة جميع أوجه الخلل الرئيسية، وهو بالضبط ما تحتاجه الساحة الفلسطينية اليوم.