في فهم الغرب حلب

18 ديسمبر 2016
+ الخط -
أخيراً، خرجت دعوةٌ تطلب من الأمم المتحدة وضع الآليات المناسبة لمعرفة حقيقة الوضع في حلب. لكنها، للأسف، متأخرة جداً، بل هل نستطيع أن نعتبر مطلقها بعيداً عن الواقع إلى الدرجة التي دفعته إلى طلاق دعوته، بعد أن دُمِّرَت المدينة وتهجَّر سكانها، ومُسحت آثار المجازر التي ارتكبت بحق أهلها، والتي عمّت العالم مطالب لوقفها. والغريب أن مطلقها هو وزير الخارجية الفرنسي الذي قدمت بلاده، قبل شهرين، مشروع قرارٍ إلى مجلس الأمن لفرض هدنةٍ دائمة في حلب. فهل تندرج دعوته ضمن إطار تخلية الطرف من المسؤولية؟ أم هي، حقاً، محاولةٌ لفهم ما يجري في المدينة منذ سنوات؟ وهي المصيبة الكبرى.
لا يحفل الغرب بما يجري في منطقتنا العربية، أو بالمصائب فوق رؤوس أهليها، إلا إذا اقترب خطرها من حدوده. ومثال على ذلك عدم جديته في التعاطي مع صعود "داعش" سنة 2013، وعدم إيلاء جرائم التنظيم بحق أهالي المناطق السورية والعراقية التي سيطر عليها، على الرغم من انتشار صور فظائعها. كذلك عدم إيلاء الغرب الاهتمام الكافي لتهديدات التنظيم المبكّرة فيما يخص استراتيجيته تجاه أوروبا، وبقيت دول الغرب تستهزئ بتهديداته وخططه، إلى أن نفذ التنظيم جريمة قطع رأس الصحافي الأميركي، جيمس فولي، في أغسطس/ آب 2014، حينها علم الغرب أن الأمر جديٌّ، وأن عليه عمل شيءٍ لمجابهته. لكن، بعد أن قويت شوكة التنظيم، وبعد أن أخذ بالتمدّد وبتعميق جذوره.
من هنا، يأتي الاستغراب من دعوة وزير الخارجية الفرنسي، جان مارك أيرولت، في 13 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وطالب فيها الأمم المتحدة بعمل فوري، والمجتمع الدولي بعدم ترك الجرائم في حلب من دون عقاب. ولافت أن دعوته تأتي بعد شهور من المعارك، وبعد عشرات المجازر بحق المدينة وأهلها، وبعد بسط قوات النظام، والقوات المساندة لها، السيطرة على شرق المدينة، بعد سنوات من الحصار، والتي كللت جميعها باتفاقٍ، جاء بعد يوم من دعوته بين فصائل المعارضة في شرق المدينة وروسيا، ينص على خروج المقاتلين والسكان منها، ما يدخل المدينة في معادلة جديدة. فما نفع الآليات التي ستضعها الأمم المتحدة بعد هذا كله؟ وما جدوى معرفة حقيقة الوضع بعدما أفرِغت المدينة، وذُبح من ذُبح من أهلها؟

مؤكّد أن الوزير الفرنسي خمّن أن فرض النظام سيطرته على شرقي حلب ستتبعه موجة نزوح كبيرة من المدينة، تبدأ منها وتنتهي في العواصم الأوروبية، ولا بد أن يكون لفرنسا نصيب منها. فلا تزال موجات الهجرة السابقة في ذاكرة الأوروبيين، حينما توجه عشرات آلاف السوريين والعراقيين إلى أوروبا، عبر الطرق التي أتيحت لهم، ما أجبر الاتحاد الأوروبي على توقيع اتفاقية مع تركيا للحد من هذه الموجات، مقدماً مليارات الدولارات لمساعدة اللاجئين السوريين في تركيا، وحضهم على البقاء فيها. ومن هنا، تتطلب معرفة حقيقة الوضع في حلب أيضاً معرفة حقيقته في سورية ككل، فالأمور لا تتجزأ هنا، وكان من المفترض بالأمم المتحدة، أو حتى بوزارة الخارجية الفرنسية، ألا تنتظر حتى الآن لوضع تلك الآليات من أجل فهم حلب، أو فهم سورية.
ويبقى العامل الروسي، وهو ما يجب فهمه أكثر، كونه أكثر العوامل تأثيراً في مجريات الأحداث في سورية، وتنظر إليه الدول الغربية بريبة، لكنها تعجز عن فعل شيء إزاءه. فيوماً بعد يوم، تزداد شوكة روسيا قوةً، وتفرض إرادتها على القوى الدولية الأخرى. وأضحت سورية ملعباً لها لإعادة إظهار قوتها العسكرية، والمكان الأفضل لاستثمار هذه القوة دبلوماسياً ونفسياً. وقد تبدَّت قوة الروس تلك في جولات مفاوضاتهم الطويلة مع الأميركيين، وتوصلوا معهم خلالها إلى اتفاقياتٍ لفرضِ هِدَنٍ، سرعان ما نقضوها هم أنفسهم، علاوةً على الفيتوات التي رفعوها في وجه جميع القرارات التي تخص سورية، وطُرحت أمام مجلس الأمن للتصويت عليها، من دون أن تتمكّن الدول الغربية من اتخاذ قرار حقيقي لمواجهتهم، تكراراً لفشلهم معهم في قضية القرم وأوكرانيا. إضافة إلى ذلك، كان استتباب الأمر للروس في سورية، وتعزيزهم قاعدة طرطوس البحرية، واستحداثهم قاعدة حميميم الجوية، ركيزةً للتفكير في توسعهم في المتوسط، فكان الحديث عن بناء قاعدة بحرية وجوية روسية في مصر، ووضع ليبيا واليمن ضمن استراتيجيتهم التوسعية، وهو وجع رأس آخر للأوروبيين والأميركيين أيضاً.
سيدرك الغرب أنه كان عليه معرفة حقيقة الوضع في حلب منذ أربع سنوات، كذلك معرفة حقيقة الوضع في سورية منذ ست سنوات، وكذلك في العراق. وكان عليه دفع الأمم المتحدة إلى تحسين آلياتها وفرض إرادتها وحلولها، ومساندتها حين تفشل في ذلك.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.