في فلسفة الحبّ

23 ديسمبر 2017
+ الخط -
كلّ منّا في هذا الكون لا بدّ من أن يكون قد عرَف تلك المرارة العذبة التي تقف في حلق المحبين بعد انقضاء الحب.. أجل، فإنّ المرء ليشعر قبل الحب بأنه لم يكن سوى مجرد ""فرد" حتى إذا ما أحبَّ شعر حقاً بأنه "شخص"، فإذا ما انقضى الحبّ لم يعد المرء سوى مجرد "شيء"! أو ربما كان الأدنى إلى الصواب أن نقول: إنّ الإنسان قبل الحب "شيء"، وعند الحب "كلّ شيء"، وبعد الحب "لا شيء"! وهذا هو السبب في أنّ الحب يتذبذب بنا دائماً بين قطب الحياة وقطب الموت، وكأنّما هو رَقص ميتافيزيقي يؤديه ذلك المخلوق المطلق النسبي الذي لا بدّ من أن يحيا دائماً معلّقاً بين الأرض والسماء! ويخيّل إليّ أنّ الله نفسه يتأمل -من علوّ سمائه- هذا الرَّقص الميتافيزيقي الذي يؤديه عباده المحبّون. وربّما كان هذا هو السرّ في تلك المسحة الإلهية التي نراها دائماً على جبين المحبّين، وكأنهم قد استطاعوا أن يصعدوا على أجنحة جنونهم الإلهيّ إلى سماءِ المطلق. فلماذا يقترن الحب دائماً وأبداً بالألم؟ وهل نحتاج إلى الحبّ فعلاً في حياتنا؟ لماذا يخرج الإنسان من ذاته لكي يتجه نحو تلك "الذات الأخرى" التي سيتعلق بها كما لو كانت ينبوع سعادته ومصدر خلاصه؟ أليس هناك مخاطرة كبرى في أن تعلّق الذات كل آمالها في الحياة على ذاتٍ أخرى مثلها؟ وماذا عسى أن تكون هذه الذات الأخرى إن لم تكن مثلنا ذاتاً متناهية ضعيفة فانية قابلة للزوال؟ كل تلك أسئلة قد لا يكون من السهل أن نجد لها إجابات حاسمة.

لقد تناقضَ الفلاسفة في فهمهم للحب: إذ قصر كل منهم نظره على وصف جانبٍ واحدٍ فقط من جوانب تلك التجربة الإنسانية المعقدة، بينما حاول الكثيرون منهم أن يفسروا هذا السر البشري الغامض بإرجاعه إلى بعض العلل المباشرة القريبة. وأما الذين توهموا أنهم قد استطاعوا أن يقبضوا بجمع أيديهم على الحقيقة، فقد راحوا يؤكدون أنّ الحب لا يخرج عن كونه مجرد حيلة اصطنعتها الطبيعة لتحقيق أغراضها، وكأنّ فعل الحبّ وفعل التكاثر سيّان!

فتفسير الحبّ بإرادة البقاء -على نحو ما فعل الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور مثلاً- إنما هو تفسير قاصر لا يمتدّ إلى صميم الماهية الحقيقية للحبّ من حيث هو تبادل شخصيّ بين "الأنا" و"الأنت"، واعتراف بالقيمة المطلقة للشخصية المحبوبة. فليس الحبّ في شتى أشكاله مجرد متعة جنسية، أو مجرد رغبة في إنجاب النسل، بل هو أولاً وبالذات خروجٌ من عزلتنا الأليمة، وتحطيمٌ لقوقعتنا الذاتية، وانتصارٌ على الأنانية. وهذا هو السبب في تلك القشعريرة المقدسة التي تستولي على قلب الإنسان حين يلتقي لأول مرّة بتلك الذوات المجهولة التي سوف تنتزعه من براثن أنانيته! والواقع أنه حين يتم التلاقي بيننا وبين موجود آخر، فإن من شأن هذا التلاقي أن يهزّ أركان وجودنا هزّاً عنيفاً عميقاً، فضلاً عن أنه يثير في أعماق نفوسنا مشاعر متناقضة من القلق والجزع والجنون والنشوة.


وكلّ منا يذكر بلا شك كيف كان لتجربة التلاقي في حياته تأثيرها العميق، وكيف جاءت خبرته الأولى في الحبّ فأيقظته من سباته الأناني، وفتحت أمامه آفاقاً جديدة، وجعلته يرى العالم للمرة الأولى كأنما هو قد ولد من جديد.

بيد أنّ المشكلة الكبرى في الحب -كما لاحظ الفيلسوف جان بول سارتر في كتابه الوجود العدم- ليست هي مشكلة الوفاء، ولا هي مشكلة التفاوت بين الجنسين، وإنما هي مشكلة الصراع بين حريتين. وهنا يقول سارتر إن نقطة البداية في الاتصال بين الذوات إنما هي "النّظر". والواقع أنّ "نظرة" الغير إليّ إنما تشعرني بأن لي طبيعة خارجية يراها الآخرون كما يرون سائر الأشياء. وكأنني في نظرهم مجرد "موضوع" يحكمون عليه من وجهة نظرهم الخاصة. ففي نظرة "الآخرين" إليّ إنكار ضمنيّ لحقيقتي الباطنية التي لا أملك أن أظهرها في الخارج، لأنها ليست شيئاً يمكن أن أجسّمه في موضوع. وتبعاً لذلك فإنّ شعوري بأنني "مرئي" من شأنه أن يترتب عليه بالضرورة شعوري في الوقت نفسه بأنني لا أملك دفاعاً أمام حرية الآخرين، ما دام في وسعهم أن يحكموا عليّ كموضوع، وأن يطلقوا عليّ ما يشاؤون من أحكام. ولعلّ هذا ما عناه سارتر حينما قال -في عبارة قد تبدو لأول وهلة متهافتة-: "إنّ في وسعنا أن نعتبر أنفسنا مستعبدين أو غير أحرار -ما دام من الضروري لنا أن نبدو أو أن نظهر- أمام الآخرين".

ثم يمضي سارتر في حديثه عن شعور الذات بأنها موضوعٌ أمام الغير، فيقول إنّ هذا الشعور يولد لديها ضرباً من الإحساس بالخجل، وكأنّ نظرة الغير إليها تجرّدها من ملابسها لكي تضعها أمام الآخرين، عاريةً تماماً!

فليس الخجل هنا خجلاً من الذات، وإنما هو اعتراف بأنّها فعلاً ذلك الموضوع الذي يراه الغير ويحكمون عليه. وهذا الاعتراف يتضمّن إقرار الذات بأنها عبارة عن موجود يتوقف وجوده على الآخرين. إذن، إنّ الخجل الذي يتحدث عنه سارتر هنا ليس وليد الشعور بأن الذات قد ارتكبت خطأً معيناً، بل هو شعور عام يغمر الموجود البشريّ حين يشعر بأنه قد قُذِفَ به إلى هذا العالم، وأنه لا سبيل أمامه للإفلات من نظرات الآخرين، وأنه يحتاج على العكس إلى وساطة الغير لكي يكون ما هو كائنه.

والواقع أنه حين تشعر الذات بأن الآخرين ينظرون إليها، فهي عندئذ سرعان ما تحسّ بأنّها قد أصبحت مملوكةً لذلك الغير -الذي يمسك بين يديه- بذلك السرّ الذي هي عليه الآن، فضلاً عن أنها تشعر في الوقت نفسه بأنّ هذا الغير يسلبها حريتها! وليس "الصّراع" بين الذوات المتحابّة سوى تلك الحالة التبادلية التي تنشأ من محاولة كل ذات تملّك غيرها من الذوات، مع شعورها في الوقت نفسه بأنّ الأخرين يردّون لها الجميل بمثله!

وهنا نصل إلى العقدة الرئيسية في مشكلة الحب: فالأصل في الحبّ -وفقاً لسارتر- أنه مشروع يراد به التأثير على حرية الآخر، ومثل هذا التأثير لا بدّ من أن يحمل في ثناياه معنى الصراع كما أنه وبمقتضى تعريفه يحمل في باطنه بذور فنائه، فلا غرابة على الإطلاق في أن نرى الألم يقترن دائماً وأبداً بالحب.

تلك هي الخطوط العريضة لنظرية سارتر في الحب، ولسنا ندري لماذا يصرّ فيلسوفنا منذ البداية على إقامة هوة شاسعة بين "الوجود للذات" و"الوجود للآخرين" في صميم حياتنا النفسية، في حين أن التجربة شاهدة بأن الحرية قلما تريد ذاتها إرادة حقة مليئة، دون أن تريد في الوقت نفسه حريات أخرى غيرها.

فسارتر في نظريته السابقة قد أحلّ فكرة التملك محل فكرة التبادل، فجعل من الحبّ صراعاً مستمراً بين حريتين، بدلاً من أن يجعل منه مشاركة فعالة بين إرادتين. وربما كان السبب في عجز سارتر عن فهم حقيقة الوصال القائم بين الذوات أنه جعل من النظرة نقطة البدء في دراسته للعلاقات المحسوسة القائمة بيننا وبين الآخرين، فحصر بذلك ميدان العلاقات الشخصية في دائرة التهديد وحكم منذ البداية بأن الاستمرار أو الاتصال بين الضمائر ضربٌ من المستحيل.

إن كان ثمة حقيقة لا بدّ من إبرازها ختاماً فتلك هي أنّ الحب ليس عاطفة ترتبط بـ"الأنا" ويكون "الأنت" بمثابة المضمون أو الموضوع، وإنما هو علاقة حية توجد بين الأنا والأنت، فالشرط الأساسي لكلّ حب هو التخلي عن كل نزوع نحو التملك من أجل محبة الآخر من حيث هو آخر وكما هو موجود، ومعاملة الآخرين معاملة الأشخاص أو الذوات وليس معاملتهم كموضوعات أو أشياء.

فإذا كان الحبّ هو أعمق صورة من صور الوصال بين الذوات فذلك لأنه يحطم قوقعتنا الذاتية، لكي يضعنا وجهاً لوجه أمام الآخر الذي وجدناه، حتى قبل أن نبحث عنه.
ABDEEA39-AF88-4731-8025-B46B7426D955
مي جلال عواد

حاصلة على ماجستير في الفلسفة السياسية من معهد الدوحة للدراسات العليا.