التصور السارتري للفعل ومقاومة الفيلسوف

26 يوليو 2017
+ الخط -
كان مارتن هايدغر يقول لطلابه إنّ هدف الإنسان الأول ليس أن يحاول فهم الأحداث والتحكم بها، إنما هدفه أن يعيد إلزام نفسه بالقيم التي تمكنه من الفعل من داخل تلك الأحداث، وبهذا الفعل يستطيع أن يحقق "أصالته" أو "حقيقته". في الواقع، إن هذا التصور الهايدغري للفعل والالتزام أثر في فلسفة سارتر تأثيرا كبيراً، وقد ظهر ذلك بشكل واضح في كتاباته الأدبية والفكرية، إضافة إلى مواقفه تجاه الاحتلال النازي والتزامه ووقوفه إلى جانب ضحايا الاستعمار، ودفاعه عن قضايا الحرية والمقاومة في العالم، ولا سيما استقلال الجزائر وحقوق المضطهدين.

جوهر الوجودية، أي ما بما به يكون الوجودي وجودياً، ليس في منهج التحليل الفينومنولوجي أو القلق كتحد للحرية به تتحقق، وحسب، وإنما في الامتحان الأكبر الذي يقلص الفجوة المخيفة بين الفكر والوجود، ما بين الوعي والفعل. لذلك يسعى الوجودي أن تكون البراكسيس (الممارسة) امتداداً لفكره مثلما كان الوجود منبعا وشرطا لفكره. 

على هذا النحو يتضح الالتزام عند ساتر بالفلسفة بما هي براكسيس. يقاوم الفيلسوف بأتم معنى الكلمة إلى جانب طلاب حركة ماي 1968. ويصبح مؤسساً لجريدة قضية الشعب (ماوية التوجه) وموزعاً لها في ساحة السوربون، القصد وكذا نفهم أيضاً الدور الذي لعبه سارتر في الدفاع عن حق الشعب الجزائري بالاستقلال، ولا ننسى أنه سار في عدة مظاهرات تأييداً لهذا الحق واستنكاراً لسياسة الإرهاب التي اتبعها الفرنسيون في الجزائر ضد المقاومين الجزائريين.

ويُذكَرُ أيضاً تحريضه للجنود الفرنسيين على التمرد والعصيان وعدم الذهاب إلى الجزائر للقتال، حتى أنه قد اتهم بخيانة فرنسا، إضافة إلى موقفه المشرّف من حوادث المجر يوم استنكر تدخل القوات السوفييتية، مع أنه كان من أكبر المتعاطفين مع الفكر الماركسي والشيوعي، بالإضافة إلى مواقف أخرى من التمييز العنصري في أميركا وتأييده للثورة الكوبية ضد الاستعمار الأميركي. 

وهكذا، فقد أعلن سارتر علانية عن سلسلة من الالتزامات تجاه قضايا التحرر متحولاً إلى إطار الممارسة من أجل تغيير الوجود، ولهذا السبب بالتحديد ارتبط مفهوم "الالتزام" بفلسفته على الرغم من أنه ليس أول من استعمل هذا المصطلح: فإن فعل (التزم) ومشتقاته (التزام، نلتزم..) أخذ يظهر بكيفية منتظمة أكثر فأكثر منذ ما بين الحربين العالميتين في خطاب النقاد والمثقفين.
وبدقة أكثر، يبدو أن تحديد الالتزام الذي اعتمده سارتر أخذ يتشيد تدريجياً ضمن خطوات الوجودية المسيحية.
وضمن هذا السياق، فإن تحديد الالتزام الذي اتخذه سارتر يلتقي مع الالتزام الذي أعلن عنه الفلاسفة الوجوديون والذي يؤكد أن الالتزام هو النقطة التي يلتقي عندها ويتواشج الفردي والجماعي، فالالتزام يعود إلى قرار أخلاقي يريد الفرد عن طريقه أن يلائم بين فعله العملي وبين قناعاته الحميمية مع ما في ذلك من مخاطر.

إن إحدى الأمور الجوهرية الموجودة عند سارتر في كتاباته هي التأكيد على أن الهدف الجمالي في فعل الكتابة لا يمكن أن يكفي وحده، ولا بدّ أن يقترن بمشروع أخلاقي يدعمه ويبرره. بعبارة أخرى، فإن الكاتب الملتزم يفهم الأدب والفكر على أنه (مشروع) يعلن عن نفسه ويتحدد من خلال الغايات التي يتابعها في العالم. وبتعبير ثان، إن الكاتب الملتزم هو من يطلب من الأدب والفكر أن يعطيه دوافعه ويسانده أيضاً. فلا يمكن بالنسبة لسارتر أن يكون الكاتب صامتاً ومنكفئاً على ذاته، لأن الكتابة الملتزمة هي كتابة (مشاركة) وليست كتابة (انطواء)، وحتى تتطابق الكتابة بمشروع تغيير العالم، وحتى يكون الأدب والفكر مشروعاً حقيقياً لتغيير الواقع، يتوجب على الكاتب أن يقبل الكتابة من أجل الحاضر، فالكاتب الملتزم يختار مصمماً الإجابة على مقتضيات الزمن الحاضر.

وضمن هذا السياق، وعلى الرغم من مواقف سارتر الداعمة لقضايا التحرر في العالم العربي، يبقى موقفه غير المؤيد للنضال الفلسطيني موضع تساؤل ونقد دائم، فالالتزام الذي تحدث عنه سارتر في فلسفته بقي منقوصاً. فهذا الفيلسوف الفرنسي الذي أطلق صيحة "عارنا في الجزائر" والذي عرف بفلسفته ومواقفه الجذرية ضد الاستعمار، بقي موقفه أقرب إلى الرواية الصهيونية. وظلّ سارتر ثابتاً حتى موته في موقفه المؤيد للصهيونية، أكان هذا بسبب خوفه من أن يتهم باللا سامية، أو تعبيراً عن شعورٍ بالذنب والعقدةِ النفسية بسبب المحرقة، أو لأنه لم يسمح لنفسه بالتعبير عن تقدير عميق للفلسطينيين كضحايا الظلم الإسرائيلي والمناضلين ضده.

إن سارتر عندما يغضّ البصر عن ممارسات إسرائيل اتجاه الفلسطينيين نتيجة لقلقه في أن يتّهم باللا سامية يكون بذلك قد عكس الآية، وحوّل اليهودي إلى شخص معاد للسامية والفلسطيني إلى يهودي، فهم لا يزالون يتصورون ويحملون في ذهنهم الصورة للدولة اليهودية كدولة تم تأسيسها من قبل الناجين من الهولوكست، لا من قبل مستوطنين مسلحين استعماريين.

إن هاجس الإبادة العرقية قد سيطر على ذهنية سارتر وجعله ينسى أو يتناسى أن الشعب الذي أصبح عرضة للإبادة في هذه الأيام هو الشعب الفلسطيني وليس إسرائيل. فالفيلسوف نفسه لا ينجو من الصور النمطية. وأكثر الظن أنّ موقفه وللأسف قد أظلّه مفهوم "الأقلية": الأقلية دائماً مضطهَدة، وهو لا يرى العكس كيف تكون الأقلية مغتصِبة للحق ومضطِهدة للأغلبية. فما عساه أن يكون موقف سارتر الآن، لو بقي حيا، حين يرى ما تقوم به الممارسات الإسرائيلية اليومية بحق الفلسطينيين في القدس والتي ترمي إلى سحق أي وجود آخر أمام هذا الوجود المدعوم بقوّة النار والحديد؟

ABDEEA39-AF88-4731-8025-B46B7426D955
مي جلال عواد

حاصلة على ماجستير في الفلسفة السياسية من معهد الدوحة للدراسات العليا.