في ضرورة العودة إلى "فن السياسة" لأرسطو
بين الفينة والأخرى، أراها ضرورية، بل مفيدة جداً، العودة إلى كتاب "في السياسة" لأرسطو، على الرغم من قرون طويلة تفصلنا عن مضمون الكتاب ودواعيه، وعلى الرغم، أيضاً، من تطور نُظُم السياسة نفسها، بقوانينها وآلياتها وأفانينها في هذا العالم، على كرّ الأزمان والأجيال.
وربما تكمن أهمية المراجعات الدورية لكتاب أرسطو، في أن صاحبه هو الأقرب بين الفلاسفة الغابرين إلى نظرائه المعاصرين والحداثويين المجددين في علم السياسة، وربما، أيضاً، لحدس هذا العبقري، وقبل الأوان، بنظام أنظمة التهيّكل السياسي وشروطه وقوانينه، التي انبنت في ما بعد، وتأكدت وترسّخت في تركيبة الدولة الحديثة، بهرميتها ومؤسساتها، منذ أكثر من 2300 سنة وحتى اليوم. وربما، لأن مؤسس علم السياسة، أرسطو، بعدما استفاد من مثالية أستاذه أفلاطون، وفكّك الحقيقة الأفلاطونية المجردة بأفكارها "الطيرانية"، مترجماً إياها إلى رؤية واقعية ملموسة، ثم مقسّماً إياها إلى مضامير بحثية مختلفة: بحث في السياسة، بحث في النفس، بحث في الأخلاق، بحث في الطبيعة الجامدة، بحث في الطبيعة المتحركة أو البيولوجيا، ثم بحث في الميتا فيزيقا.. من تحت إلى أعلى، ولمصلحة الملموس قطعاً. وبذلك خرج أرسطو من دائرة النطاق الذهني المجرد البحت إلى النطاق الواقعي الملموس وجريرة الاندغام بالناس وأحوالهم: كيف يعيشون وكيف يأمنون وكيف ينظّمون اختلافاتهم ويرتقوا بأحوالهم مع الزمن، انطلاقاً من قولته: "التغيير مرغوب في كل شيء"، و"إنه ينبغي للدولة أن تمارس سلطتها على كائنات بشرية حرة، باعتبارها أعلى أشكال المجتمع".
طبعاً تراث أرسطو، ومنه كتاب "في السياسة" كاد يرحل معه، لولا أن تهيّأ له فلاسفة كبار، عرب ومسلمون، اشتغلوا عليه، ونقلوه إلى اللاتينية، من أمثال ابن سينا وابن رشد، فاستفاد منه الغربيون، وخصوصاً مع انفجار ما يسمى عصر النهضة أو الأنوار في أوروبا.
والكتاب، ببساطة، يسجل أرسطو فيه مفهوم مبدأ الدولة وآلياته. وعلى الرغم من أن الدولة من عمل الطبيعة في رأيه، إلا أن ذلك لا يمنع بتّةً من أن تكون فناً حاذقاً ومرناً يجيده من هو جدير بتنكّبه. وتظل بذلك الطبيعة هي الأصل هنا، مكتفية وقائمة بذاتها من عناصرها ومظاهرها ونواميسها، وهي ممتدة عبر الإنسان، في أحواله ومتغيّراته، وأنها محتواة فيه كلها.
ويبيّن أرسطو في كتابه "في السياسة" أن القانون هو السيد في الدولة، وأن الحكومات خادمة له، وتسفر عنه، وهو آيتها وسلاح قياميتها الدائمة، بخاصة إذا ما أرادت لها ظروف هذه القياميات أن تبقى وتستمر، وإذا ما أرادت هي الخير لنفسها وللحياة على السواء.
ويركّز أرسطو على فلسفة الوعي السياسي، وجدله المفضي إلى شروط تنظيم الحياة البشرية. كما يبرهن في كتابه على أنه فيلسوف للغد وبعد الغد وما بعد.. بعد الغد. مهمته، مثلاً، أن يشرح نُظُم الحياة السياسية المتمثلة في بنية الدولة الدستورية العادلة وقواعدها، فالمرء لا يستطيع أن يعرف حقيقته وحقّه من دون "القانون السياسي"، و"توافر الحريات"، و"المشاركة السياسية"، و"المواطنة"، و"المجتمع المدني"، و"الانتخاب والتمثيل الجيد" و"الفصل بين السلطات"، و"مجلس الأمة"، و"محفل الأمة"، و"السيادة الوطنية"، و"حكم الأقلية"، و"الحكم الشعبي".....إلخ. وكلها مصطلحات عرفتها وتداولتها الحياة السياسية في بلاد الإغريق، من خلال أرسطو وغيره، منذ القرن الرابع قبل الميلاد. والمفارقة، بل المفاجأة الدائمة، أن هذه المصطلحات نفسها، ما تزال "تتلألأ"، وبقوة، على ألسنة السياسيين والمحللين والمثقفين، وفي سائر الأدبيات السياسية الغربية والعالمية اليوم، كما لو انها مستحدثة منذ أشهر.
وإذا كانت المواطنة أسّ مجتمع الدولة الحديثة، فإن أرسطو نظّر لمسألتها بالقول "بما أن الدولة تتألف من أفراد، نظير أي شيء آخر من الأشياء الكاملة المكونة من أجزاء كثيرة، يتضح لنا أنه ينبغي، قبل كل شيء، أن نبحث عن المواطن، إذ الدولة جماعة مواطنين. ومن ثمّ علينا أن نستقصي من يجب أن ندعوه مواطناً، ومن هو المواطن؟.. إذ يكثر ما يكون المواطن موضوع جدل، من حيث إن الجميع لا يتفقون على كون المواطن شخصاً واحداً (معيناً). فقد يتفق مراراً في حكم الأقلية أن لا يعتبر مواطناً من هو مواطن في الحكم الشعبي"... وهكذا ظلّ سؤال المواطن والمواطنة موضع جذب واهتمام مركزيين لدى أرسطو، وما رأى له حلاً إلا في الدولة المدنية القوية العادلة، فهي وحدها القادرة على ردّ الجزء إلى الكل، والكل إلى الجزء، وبسلاسة وانصهار يشرعنهما القانون، والقانون هو أسّ الدولة المدنية، والأس الآخر لهذه الدولة يتجسد، بحسب أرسطو، في أن تكون "كرامة الإنسان مؤمّنة قبل كل شيء".
وفي الفصل الثالث من كتابه"، يتحدث أرسطو عن الحكم الشعبي وحكم الأقلية، ويرى أنه يجب الإدراك أن الأحرار، إن قلّ عددهم وتسلّطوا على جم غفير من السوقة، لا يؤلفون حكماً شعبياً. وهذه كانت الحال في "أبلينا" (مدينة من مدن إلريّا القديمة.. ألبانيا حالياً) وفي "ثيرا" (جزيرة شمالي جزيرة كريت في البحر المتوسط). ففي كل من هاتين الدولتين، تبوّأ مناصب الشرف، المتفوقون بمحتدهم، الذين سبقوا، وكانوا قلائل بين مواطنين كثيرين.
ثم يجب الإدراك إن الأغنياء، هم أيضاً، لا يؤلفون حكماً شعبياً إن تفوقوا بعددهم. كما كانت الحال قدماً في "كلفون" (من المدن الأيونية في آسيا الوسطى)، لأن معظم الشعب قد حصل هناك على ثروة طائلة، قبل نشوب الحرب بينهم وبين "اللذيين" (أهل لذيّا، مقاطعة في آسيا الصغرى)، وإنما يقوم الحكم الشعبي عندما يتسلم السلطة حزب الأحرار المعسرين الكثيري العدد، ويقوم حكم الأقلية عندما يتسلم زمام السلطة الأغنياء والأشراف، وهم قليلو العدد.
ويتحدث أرسطو في الفصل العاشر من كتابه عن كيف تكون السياسة ثابتة، فيرى أنها إنما تكون في الدولة التي تتفوق فيها الطبقة المتوسطة بعددها على الطبقتين المتطرفتين جميعاً، أو في الأقل على إحداهما، فهناك يحتمل أن تكون السياسة ثابتة. هذا ولا خوف ألبتة من أن يتحالف الأغنياء والفقراء على أهل الطبقة الوسطى، إذ لن يقبل أحد الطرفين أن يستعبد للآخر.. وإن بحثا عن سياسة مشتركة بينهما، فلن يجدا سياسة أخرى غير التي تعتمد على الطبقة الوسطى، من دون غيرها، إذ لا يحتمل أن يصبرا على الحكم، كلّ بنوبته، لما تأصل في نفس كل من الفئتين نحو الأخرى من خشية وارتياب. وفي كل مكان لا يوثق أعظم الثقة إلا بالحكم، والحكم هو الذي يشغل مركزاً وسطاً.
هذا نزر يسير من أرسطو الفيلسوف، مؤسس علم السياسة، والذي يراه علم إصلاح المجتمع وتثقيفه وتطويره، كما يراه أسمى العلوم والفنون، وأعظم خير وأقصاه، والخير السياسي هو العدل، والعدل هو المنفعة، والعدل يبدو للجميع مساواة ما". ومن يقرأ كتابه "في السياسة" يلحظ أن أرسطو مفكر ما فوق معاصر، ما فوق حداثي، ما فوق رؤيوي مستقبلي، وكل فكرة من أفكاره حول فلسفة الدولة والمواطنة فيها، كانت تصحبها سياقات علمية عن علتها، وربما، لهذا السبب، قيل عنه "إنه أسّس لتاريخ علم السياسة قبل السياسة كعلم".