في صحبة الهلع .. حافظ على هدوئك

11 مارس 2020
+ الخط -
إنها إذن كورونا، شغلنا الشاغل الجديد. تقول التعليمات الحكومية، شبه المعدومة حتى الآن، في مدينة الضباب لندن: حافظ على هدوئك واغسل يديك... طيب وماذا بعد؟ ماذا عن لمس الأشياء التي أعايشها في حياتي اليومية؟ باب المصعد؟ باب مكتب العمل والطاولة وآلة الكومبيوتر.. هل أحاول الابتعاد مسافةً ما عن الزملاء، وماذا عن ركاب النقل العام؟ هل أحاول أيضا أن أجد مقعدا منزويا بعيدا؟ أم أطلب تاكسي "أوبر" أم أقصد المكتب سيرا على الأقدام؟ ماذا لو عطس أحدهم في وجهي فجأة؟ ماذا لو علق الفيروس على طرف ثوبي أو القفازات أو غيرها؟ 
العدو لئيم، من الصعب فهم مخططاته أو استباقها، كما أن تجنبه يبدو ضربا من المستحيل بعدما تفاقم عدد المصابين، وصولا إلى أكثر من مائتي حالة في بريطانيا، أكثرها في لندن، بما في ذلك ثلاث حالات وفاة لمرضى متقدّمين في العمر في الغالب، قدّمهم الإعلام أنهم يعانون من حالاتٍ مرضيةٍ سابقة. ترتفع الأعداد كل يوم بمعدلٍ لا يقل عن أربعين حالة، وحبل الوفيات على الجرار، ومؤكّد أن عدد الإصابات سيكون أكبر لدى نشر هذه المقالة. تبدو التعليمات الوقائية ساذجةً، كشعبوية رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الذي ادّعى أنه صافح باليد العاملين في مستشفىً يضم حالات إصابة، في حين اتهمه بعضهم بالكذب، ولم تعلق المراجع المعنية. تبدو الحياة عادية في لندن إلى حد كبير، في غياب رد فعل حكومي حازم، وكأن وصول الوباء محتم لا مجال لردّه. خلافا للتوقعات، لم يتوقف سكان المدينة عن قصد المطاعم والحانات، على الرغم من أن عدد الرواد تراجع بحسب الأرقام الرسمية. راكبو النقل العام لم يغيروا عادتهم، على الرغم من اعتبار وسائل النقل العام من البيئات الأكثر قابليةً لتفشي الفيروس. لا ترى معالم لكمامة الوجه إلا في حالات قليلة. الأسواق الشعبية (الماركت) في العطل الأسبوعية لا تزال تعج بالرواد، على الرغم من التعليمات الحكومية بتفادي الحشود واتباع سياسة "التباعد الاجتماعي". هل هو الاحتفال بالحياة أم الاستسلام للرعب القادم لا محالة؟
قرّرت ألا أستقل النقل العام إلى المكتب. المسافة ليست بعيدة، وفي وسعي أن أقطعها مشيا، أو أن 
أطلب تاكسي "أوبر" في حال سوء الطقس. قرّرت أيضا أن أضع الكمّامة في الأماكن المزدحمة من باب الوقاية، على الرغم من عدم شيوع استعماله على نطاق واسع في شوارع المدينة وأماكنها العامة، وعلى الرغم من تكرار الإرشادات بشأن عدم جدواه. حصدت لندن العدد الأكبر من الإصابات، مع تواتر الانتقادات للحكومة عن احتمال إخفاء معلومات عن الانتشار الحقيقي للفيروس وأماكن الانتشار في الأحياء. هل أغادر المدينة، وألجأ إلى الريف المجاور، قبل أن تغلق المدينة أبوابها على أهلها؟ وماذا إذا علقت في منطقة نائية بعيدة من مستشفيات لندن الأكثر تأهيلا من تلك في الضواحي؟ يزيد صمت الحكومة من اتساع القلق وفوضى تعبيراته. على سبيل المثال، انتشرت النصائح والإرشادات بشأن ما يمكن أن يساهم في إبعاد الإصابة، مثل تناول عقاقير الفيتامينات أو الثوم بعد الأكل أو شرب الماء الساخن أو غيرها من النصائح التي قد تكون مفيدة أم لا. من غير المؤكد ما إذا كانت برودة الرد الحكومي تعكس عقلانية في التعاطي مع مخاطر الوضع، أم مجرد عجز وتخبط في وقتٍ قال خبير أوروبي لـ"بي بي سي" إن بريطانيا ستتحول إلى إيطاليا أخرى، إن لم تفرض إجراءات عزل حازمة في غضون أيام.
زاد الفيروس مساحة الفراغ والتذبدب في حيواتنا. سياسة التباعد الاجتماعي التي لا يبدو أنها طبقت فعليا قد تزيد من عزلة هؤلاء الذين لا علاقات اجتماعية فعلية لهم سوى مكان العمل 
والمواصلات العامة. زاد الإحساس بالخطر الداهم، ليقضي على الاهتمام بالمخاطر الاعتيادية: مرّ خبر حادثة طعن شاب في مقتبل العمر في منطقة كرويدون الشعبية من دون أي اهتمام، في حين أن حالة طعن جديدة كانت ستستدعي تغطيةً إعلامية مكثفة، باعتبارها الخطر الأكبر على أهل المدينة. قتل رجال الشرطة شابا هجم عليهم، حاملا سكينا في وسط لندن، من دون تغطية تذكر أو متابعة لما قد يكون عملا إرهابيا. بات مفهوم الخطر لزجا ومطّاطا يحمل، في طياته، مفهوما جديدا للقلق، وعلاقة جديدة بالآخر، على أنه مصدر مبهم للمصيبة، يفترض الابتعاد عنه مسافة متر على الأقل.
يسأل المعلق هنري مانس، في مقالة في "فايننشال تايمز"، عما إذا كانت أزمة فيروس كورونا سوف تجبرنا على إعادة النظر في طريقة حياتنا إلى حد مقارعة مسلّمة أننا بتنا قادرين على التحكم بالعالم إلى درجة الطيران حول العالم لمجرد سببٍ واه، مثل حضور حفل زفاف. يقول الكاتب الذي زار مطار هيثرو، ليجده شبه فارغ، ويقصد الكنيسة الصغيرة داخله، ليصلي مع بعض الموظفين، يقول إن الأزمة قد تشكل نقطة تحوّل في العملية التي تقوم على حرية الحركة والتنقل وقدرة الإنسان على تطويع الطبيعة بقوة التكنولوجيا. ثم ماذا بعد؟ من هذا السؤال يبدأ الهلع.
A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.