... في جدلية التغيير

17 مايو 2014

Foto Bureau Nz Limited

+ الخط -

تقوم الديمقراطية على التغيير من أسفل، أي بالاعتماد على الشرعية التي تصنعها صناديق الاقتراع. ومهما اتسعت الهوة بين النخب الحاكمة والشعب، وتفاقمت أزمة التمثيل الديمقراطي، فإن التغيير يستند، دائماً، إلى الشرعية الشعبية القادمة من القاعدة.
بيد أن منطق الأشياء هذا لا ينطبق على العالم العربي، حيث يتسم المشهد السياسي بنمط التغيير من أعلى، بالموت الطبيعي للحكام، أو بالانقلابات البيضاء غير العنيفة، أو بالانقلابات الدموية (وهي النمط الغالب). وبقي الوضع على حاله، منذ الاستقلال حتى اندلاع "الثورة" التونسية التي أحدثت قطيعة مع نمط التغيير السياسي في العالم العربي، إذ، لأول مرة في تاريخ العرب ما بعد الاستقلال، يتم التغيير من أسفل. ومن هذا المنظور، تعتبر نموذجاً.
لكن، على الرغم من عدوى الربيع العربي (المحدودة)، فإن التجربة التونسية تبقى، إلى حد الساعة، استثناءً. على الرغم من استجابتها، أيضاً، إلى نمط التغيير من أسفل، فإن الحالة الليبية مبتورة، ولا تصلح فئة تحليلية، لأن التدخل الأجنبي أفسد التجربة، وجعلها، في نهاية المطاف، هجينة، بمعنى أنها محلية المنشأ، لكنها خارجية الأداء والتنفيذ في جلّها (نظراً للتدخل العسكري الأجنبي). كما أن إدارة مرحلة ما بعد "الثورة" تشير إلى الخلاف بشأن المرحلة الانتقالية، ما يجعل الالتقاء حول ضرورة التخلص من النظام السابق حالة عرضية، لا يحمل في طياته مشروعاً سياسياً، متفقاً وجلَّه على الأقل.
أما اليمن، فيبدو أنه يراوح مكانه، لأن التغيير الذي حاول "الشارع" اليمني فرضه لم يكتمل، ويبدو أن الأمر انتهى إلى مشهدٍ، هو أقرب من تغير – مميز – داخل النظام منه إلى تغيير للنظام. أما سورية، ففشل فيها مشروع التغيير من أسفل، لأن عسكرة الانتفاضة على الطريقة الليبية لم تأت أكلها، لتعذّر التدخل الأجنبي وتداخل العوامل المحلية والإقليمية والدولية.
وإذا كانت الحالة السورية تشهد على إجهاض واضح لمشروع التغيير من أسفل، وعلى الانزلاق إلى حرب أهلية طويلة الأمد، لأن فواعل إقليمية تغذيها، وتريد استمرارها لتدمير الدولة السورية. فإن الحالة المصرية دلالة على مخاطر الردة الانتقالية، أي انقلاب الدولة العميقة على التغيير لإعادة النظام البائد بحلة جديدة. بمعنى أن القوى المرتبطة، والمستفيدة من الوضع القائم، قد تعطي الانطباع بخضوعها لإرادة الشعب، من باب الانحناء الاستراتيجي، حتى تهدأ الأمور، ثم تنقلب على مشروع التغيير من أسفل، وإن كلفها ذلك الانحناء التضحية ببعض رجالاتها، ولو فترة وجيزة.

هكذا رجحت كفّة الدولة العميقة للتغيير من أعلى مجدداً، مستبعدة بالقوة إمكانية التغيير من أسفل. هكذا، قاد مشروع التغيير من أسفل في العالم العربي إلى مسارات مختلفة، بسبب اختلاف السياقات الوطنية والإقليمية. إذ يكفي، مثلاً، مقارنة تعامل "المجموعة الدولية" مع الحالات الليبية والسورية والمصرية، لتقدير ثقل القوة الترجيحية الخارجية على حالات تعثر و/أو تعطيل مثل هذا النمط من التغيير.
ويثير التغيير من أسفل مخاوف مختلف الفواعل الإقليمية والدولية، لأنه لا يرتبط بأطراف إقليمية أو دولية، فهو عملية شعبية عفوية، تزداد تنظيماً، كلما اتسعت رقعتها الجغرافية، وتصاعدت حدة مواجهتها النظام القائم. بينما أصحاب الانقلابات البيضاء والدموية، أول ما يقومون به، عادة، قبل الانقلاب هو إخبار، وربما استئذان، وطمأنة قوى خارجية نافذة، بما سيقبلون عليه، وبالتالي، عادة ما تكون سفارات غربية في العواصم العربية أول من يُعلم بما سيحدث. وبهذا، يُطمئن الانقلابيون، من الفئتين، تلك القوى لربح مساندتها. وهنا، يكمن الفرق الجوهري بين التغيير من أعلى والتغيير من أسفل، إذ يتناقض سلوك الانقلابيين تماماً مع مسار الحركة الشعبية العفوية التي تكون دائماً محلية، وطنية، يولي أصحابها وجوههم للداخل. أما إقليمياً، ففضلاً عن إشكالية "الولاء" هذه، وسبقها السياسي، هناك مخاوف إضافية بشأن انتقال العدوى إلى دول الجوار، وزعزعة عرش الأنظمة العربية الجاثمة على صدور شعوبها. ومن هنا، تتضح المخاطر الأولى للإجهاض العربي (الإقليمي) والدولي للتغيير من أسفل.
يمكن أن يأتي الإجهاض من الداخل، أو الخارج (العربي والدولي)، أو منهما معاً، كما حدث في الحالة المصرية. وليس الإجهاض أخطر بالضرورة في المرحلة الأولى من "الثورة"، لأن الجميع ينتظر حتى يتضح الخيط الأبيض من الأسود. لكنه في غاية من الخطورة بعد إسقاط النظام، لاسيما وأن محنة الربيع العربي في مصر تشير إلى أن الدول التسلطية العربية، والتي تشكل الأغلبية في المشهد العربي، تعرقل، كيفما شاءت، التغيير من أسفل حماية لأنظمتها. وإن لم تفعل (كما الحال في ليبيا وسورية)، فذلك كرهاً في فواعل أخرى، وليس حباً في التغيير الديمقراطي. إذ من غير المعقول، من منظور واقعي، أن تدافع دول تسلطية عن دمقرطة تخومها، مغامرة بانتقال العدوى الديمقراطية إليها. لا تسمح أي بيئة تسلطية بميلاد ديمقراطية، مستقلة، في وسطها لما تمثله من خطر على استقرار أنظمتها، فدولة عربية ديمقراطية هي بمثابة خنجر في خاصرة الأنظمة التسلطية.
ولا نبالغ إن قلنا إن الحكام العرب، الذين لم يصل ولا واحد منهم إلى الحكم بطريقة ديمقراطية، يتمنون فشل التجربة الديمقراطية في تونس، الوحيدة التي لم تحِدْ عن سكتها الانتقالية، بتخبطٍ في فوضى عارمة، جرّاء العجز عن الانتقال الهادئ، بالنظر إلى حساسية مرحلة الانتقال الديمقراطي. حتى تُضفى مصداقية على مقولة الأنظمة التسلطية الخاصة بالفوضى، أو منطق المفضلات التعيس: أنا أو الفوضى، على طريقة المقولة الأموية "إما يزيد أو السيف"، بها ورَّث معاوية الحكم لابنه، ليدشن بذلك أسوأ مقاربة إسلامية للسلطة في التاريخ.