رغم مرور ثلاث سنوات على إقامتي فيها، لا تكفّ هذه المدينة عن مفاجأتي، بذلك النوع السارّ من المشاهِد والأحداث. سنواتٌ أمضيتها قاطناً في قلب مركزها العتيق المزدحم: "حيّ البورن". واليوم، بعدما جرّبت السكنى العابرة في شارعَي "رييس" و"كورتينا"، ها أنا أنتقل إلى أول الجبل في أقصى الطرف الغربي من برشلونة، هنا في شارع "باي ديبرون" حيث لا يُرى سائحٌ، وتكاد لا ترى أحداً من المواطنين والمقيمين.
عمارة سكنية بأحد عشر طابقاً من الطابوق الأحمر، وبثماني شقق في كل طابق. يقوم على خدمتها العمّ سانتياغو، الستينيّ بلحيةٍ ونظاراتٍ طبية وسمرةِ فلاّحي بيت لحم. حين أخبرتني إِلبيرا، مدرّسة الإسبانية السابقة في "معهد ثربانتيس" في القاهرة وشريكتي في الشقة حالياً، بوجود بوّاب للعمارة، استغربت. فمتخيّلي العربي أفضى بي إلى سوء تأويل يجافي الواقع. بعد أيام، تكشّفت القصة عن معان لم أعهدها. فالبوّاب هنا موظف محترم وله مكتب في المدخل، ويحظى بكامل الحقوق، فضلاً عن احترام الجميع.
عرّفتني إِلبيرا على سانتياغو، فآنست فيه ألفةَ وأُنسَ وحميميّة القرويين الإسبان. يُهادينا بحبّات الليمون الأصفر "الأيكولوجيّ" من قطعة أرض صغيرة يمتلكها على مقربة من المدينة. ذلك الليمون الكبير الذي أعادني، مظهراً ومخبراً، إلى بيّارات غزة في زمنها الجميل ولموناضة ستّي رحمة. وتوصيه إِلبيرا فيُشقّر، دون حاجة إلى توصية، ليطمئن عليّ، ويسألني عن أحوالنا هناك، بوجهه الترابيّ البشوش وسلسلة المفاتيح على خاصرته.
العم سانتياغو فلاح، كما هي إِلبيرا القادمة من قرى سرقسطة. هذه الأراغونية التي تجيد اللهجة المصرية، تأخذني فرِحةً ومعتزّةً لتعرّفني على الحيّ الجديد والمناطق المحيطة به على مدى كيلومترات. وأنا ابن السهل الساحليّ في بلادي، وساكن وسط برشلونة المستوي، تعبت من التجوال، وصعود الطرق في درب العودة. مع ذلك أنتشي حالماً أتمشّى في الشوارع الهادئة وأطالع أسماءها: سيدون، حبرون، الأردن، بلاسا بالستينا، بلين، غَثَّة.. إلخ.
أسأل مرافقتي: هل كانت بلدية المنطقة ذات يوم يساراً؟ فتبتسم ولا تحير جواباً. أقول: سأذهب كلّما تسنّى الوقت لأقرأ كتاباً في "ميدان فلسطين"، والجبل بخضرته السابغة وشحاريره يكاد يلامس كتفي. أقول: ما أكرمكم أيها الناس، فأين توجد كثافة أسماء كهذه في رقعة صغيرة كهذه؟
إنهم الإسبان بدفئهم الإنسانيّ، وبهذا المقدار المتوسطيّ المتفوّق على المقدار الأوروبيّ في شخصيتهم العميقة. كأنني رأيتك من قبل، في منحدرات جبل الزيتون، أيها السانتياغو الطيّب. كلا.. بل رأيتك هناك، أكاد أقسم، ولم أرك أبداً خارجاً من أعطاف رواية أو ديوان شعر إسبانييْن.