في تعلّم التنفّس من جديد

02 سبتمبر 2020
عمل لـ همام السيد
+ الخط -

بعد واحد وثلاثين سنة وعدة أشهر من التنفّس فوق سطح الأرض، مِثْلَ باقي الكائنات، تقترح عليّ صديقتي أنْ تعلّمني التنفّس، بعدما شكوت لها ضيق نَفَسٍ صارَ رفيق الصباحات. أرادت أنْ تعلّمني طريقةً جديدة في التنفّس، لأنّ الطريقة المُعتادَة لم تعد تُدخِلُ ما أحتاجهُ من الأوكسجين إلى رئتي؛ أشهق فيدخل الضيقُ، أزفر فينضغطُ الضيق الذي تراكم في الرئتين وفي الأيدي والأرجل وفي الأفكار

جسدي ينضغط، وإذا ضممتُ أصابعي إلى بعضها أخاف أنّها سوف تنكسر، جسدي صارَ أسطوانة معبّأة بالضيق. لكنها لا تنفجر، فالصاعق تالف، وقد خرّبتهُ سنين العطالة والاستلاب.

الساعة تقترب من العاشرة صباحاً، ولم أسمع عن حالة انتحار جديدة في سورية، عن جريمة أو سكتة دماغيّة أو حادثة موت عشوائي. يبدو أنّه يومٌ ينتمي إلى زمنٍ قديم، وأستطيع أنْ أدرّب نفسي على التنفس بحريّة. أعرف أنّه يجب أنْ أتنفّس بعمق، أنْ أسحب كمية أكبر من الأوكسجين، لكنني أفعل ما بوسعي؛ أنادي الهواء، والهواء لا يأتي... أفكر بالاتصال مع صديقتي خبيرة التنفّس، ثمّ أتردّد خشيةَ أسئلتها المحتملة عن أسباب ضيقي، ما سوف يزيد الضيق. لدى البشر الكثير من الأسئلة، الأمر الذي يدفعني إلى متاهة مُغلقة، فنحن نفقد الأجوبة في كلّ يومٍ يمرّ. 

سأحملها معي، جغرافيا الضيق التي تَنْهبُ أهلها

أستعيضُ عن الصديقة بالعم غوغل الذي يقترح الأجوبة فقط، لأجد نفسي أبحث عن كلمات فواز الساجر الشهيرة عن الضيق. في النهاية؛ بلدي كلّها تحت المَنْفَسَة، منذ سنوات والسوريون يختنقون، ولا يستطيعون التنفّس. الآن العطشُ في أوجهِ والجوعُ في أوجهِ، آلامي ليست شخصية وفي الوقت نفسه، لا أستطيع القول إنّها آلامٌ عامَّة. وسوف يتعذّر عليّ شرحها، لربما تفسّرها كلمات المسرحي السوري (1948-1988)، ولربما يفسّرها موته المُبكر. لا أعرف، ولا أريد أنْ أُفكّر أكثر، ولا أريد أن أتأكّد مِن أحد أصدقائهِ الأحياء، لا أريد للضيق أن يتّسع في داخلي. 

لربما كنتُ من أولئك البشر الذين يتنفّسون عبر الكلمات، فأجد نفسي أقرأ كلمات الساجر التي تركها على ورقة صغيرة، رآها أصدقاؤه في حقيبتهِ، وآخرون يقولون إنّهم وجدوها في أحد جيوبهِ. لكن تؤكد الروايتان أنّ الكلمات كانت ترافقه مكتوبةً قبيل موتهِ: "إنّ عصرنا هذا هو عصر الضيق، أكلنا ضيق، شرابنا ضيق، زيُّنا ضيق، مسكننا ضيق، مرتّبنا ضيق، تفكيرنا ضيق، قبرنا ضيق، مطمعنا ضيق، أفقنا ضيق، عدلنا ضيق، عالمنا ضيق، مصيرنا ضيق، موتنا ضيق، قبرنا ضيق، الضيق، الضيق! افتحوا الأبواب والنوافذ... سيقتلنا الضيق! افتحوا الأرض والسماء... سيقتلنا الضيق! افتحوا الكون... سيقتلنا الضيق! الضيق... الضيق". 

إذاً عليّ أنْ أتعلّم التنفّس من جديد. يا لقسوة الفكرة، لماذا لا أتعلّم المشي أيضاً، منذ مدة أتركُ الأبواب مفتوحة -فعلاً، وليست استعارة - وما إن أنهض وأمشي عدة خطوات حتى أصبح في الخارج. من غير أن أُضطرَ لفتح أيّ باب أمامي، على نحو أخال أنّني سأخرج من الجدار مباشرةً، وفي الخارج الضيّق سوف أمشي، وأخلخل الهواء الذي أعبرهُ بجسدي الضيّق، وقد يُتاحُ للهواء أنْ يتحرّر من الضيق الذي يقيّدهُ. 

الآن أفهم عندما سألني صديقي عن شعوري، ما إن أصبحنا خارج الحدود في زيارة خارج سورية، قلتُ لهُ "كأنّ الضغط الجوي أخفّ هنا"، وكنت أشعر بهذا على نحو واقعي. إذاً سوف أستمر بالمشي حتى أخرج من هذه الأمكنة، حتى أغادر الجغرافيا الضّيقة، وكان عليّ فعل ذلك منذ سنوات... لكن بعد مرور كلّ هذا الوقت، أعي أنّني سأحمل الجغرافيا معي، جغرافيا الضيق التي تَنْهبُ أهلها، وتدفعهم إلى الهروب بها. 


* كاتب من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون