في بؤس الحريات الإعلامية عربياً

14 يوليو 2018
+ الخط -
على الرغم من كثرة وسائل الإعلام العربية وتنوعها، إلا أن هنالك براهين كثيرة تثبت أن الإعلام في هذه الدول ما زال رهينة بين أيدي السلطة. وبالنظر إلى تجارب الدول العربية في هذا الإطار، يمكن القول إن الأنظمة السياسية في مجملها لم تتخل يوما عن سيطرتها على الإعلام، حتى في الدول التي شهدت ما تعرف بثورات الربيع العربي، مع وجود فروق طفيفة بين أداء الإعلام الحكومي والكيفية التي يعمل بها الإعلام المملوك للقطاع الخاص. وربما يعود ذلك إلى صعوبة تغيير التشريعات التي تحكم العمل الإعلامي، أو إلى البنية التركيبية وتكوين وسائل الإعلام نفسها، والظروف التي يعمل من خلالها الإعلام. وهذا يقود إلى التسليم بأن إصلاح المنظومة الإعلامية بشكل ممنهج ومتكامل لا يتطلب تغيير رأس النظام وحسب، بل أيضاً إجراء تغييرات هيكلية في مؤسسات هذه الأنظمة.
واللافت أن تدهور الحريات الصحافية في الوطن العربي تزامن مع ثورات الربيع العربي، ما عدا تونس، والتي تشكل حالة استثنائية، حيث كان متوقعا أن تؤدي هذه الثورات إلى رفع سقف الحريات الأساسية، بما فيها من الحريات العامة وحرية الإعلام والحقوق المدنية. فبعد سبع سنوات مما تمت تسميتها ثورات الربيع العربي لم يشهد العالم العربي تحولا ديمقراطيا أو ازدهارا في أسس الحكم الرشيد والعدالة الاجتماعية وحرية الرأي والتعبير، باستثناء تونس التي شهد الإعلام فيها تغييرات جذرية منذ بدء الثورة في العام 2011، فقد ابتعد عن المحتوى الذي كان في السابق ذا نسق واحد ويحاكي خط الدولة وانتهج رؤية جديدة لصناعة مستقلة ومهنية مستوحاة من نماذج عالمية. وقد وصف مركز كارنيغي للشرق الأوسط الإعلام التونسي بأنه في مرحلة انتقالية، وقيد تحول لم يكتمل بعد، نظرا إلى حالة التشويش التي يعاني منها الإعلام التونسي، والناتجة عن كيفية التعامل مع مساحات الحرية الواسعة التي اكتسبها بعد الثورة، نتيجة لتخفيف القبضة السياسية والأمنية على الأداء الإعلامي، ومسيرة إصلاح القوانين المتعلقة بالعمل الإعلامي، والتي ما زالت في حالة تطور.

أما في مصر، فقد شهد الإعلام الحكومي انتشارا واسعا، خصوصا بعد انقلاب الرئيس الحالي، عبد الفتاح السيسي، إذ زادت القيود المفروضة على الإعلام. وبحسب المرصد العربي لحرية الإعلام والتعبير، شهدت مصر أكثر من 600 انتهاك للحريات الصحافية والإعلامية من 3 يوليو/ تموز 2013 وحتى 3 يوليو/ تموز 2014، أي خلال العام الأول بعد عزل الرئيس محمد مرسي. أما ما عاشته مصر في انتخابات مارس/ آذار الماضي، فلم يسبق له مثيل. تم إغلاق المساحات تماما أمام حرية الرأي والتعبير، سواء المتعلقة بالإعلام، بشقيه العام والخاص، أو بالمرشحين المحتملين أو المواطنين العاديين. وكانت التغطية الإعلامية تركز على نقل مواقف السلطة الحالية. وفي حالات استثنائية، وجهت برامج تذاع في قنوات خاصة انتقادا لحالة انسداد الأفق السياسي، إلا أن ذلك كان محدودا جدا، خصوصا بعد تصريحات السيسي بأنه ليس سياسيا، ولا يفضل الكلام.
وبحسب أحدث تقارير منظمة مراسلون بلا حدود، تراجعت دول الربيع العربي كافة في الحريات الصحافية، واحتلت اليمن المرتبة 169 عالمياً لتصبح من بين الدول العشر الأقل احتراماً لحرية الصحافة في العالم. وفي ليبيا، شهد الإعلام زيادة كبيرة في مستويات "خطاب الكراهية" بعد سقوط نظام القذافي، ليتراجع من كونه مجرد إعلام مناصر للقائد إلى إعلام مهدّد للأمن القومي والسلم المجتمعي. وقالت المنظمة إن "حرية الإعلام تعيش أزمة غير مسبوقة في البلاد، حيث أصبحت ممارسة الصحافة مغامرة محفوفة بالمخاطر، في ظل الصراع المحتدم بين الحكومتين المتنافستين على السلطة". وأبرزت أن 18 صحافياً على الأقل قُتلوا منذ ثورة 2011، وأنه "في ظل الاستقطاب الذي يخيّم على الوضع السياسي، أصبح الإعلام مهمة مستحيلة تقريباً، بينما بات إسكات الصحافيين الشغل الشاغل لعدد من الجماعات المسلحة، أو المسؤولين من كلا الجانبين".
ومع أن ملكية الإعلام إذا كانت حكومية أو شركة مساهمة عامة أو تابعة للقطاع الخاص يمكن أن تشكل أداة للتحكّم في المحتوى الإخباري، إلا أن تأثيرها يظل محدودا في الدول العربية. حيث تعاني وسائل الإعلام من افتقارها للاستقلالية عن الحكومات، حتى ولو استقلت برأس المال، بشقيه السياسي والخاص. لأن الأداء الإعلامي عادة ما يكون خاضعا للسلطة الحاكمة، بكل أذرعها السياسية والاقتصادية والتشريعية والقانونية، والتي غالبا ما تنعكس سلبا عليه، وتحول دون تخلصه من سيطرة السلطة.
وتستعاد هنا نظرية "القطيع التائه" التي صاغها المفكر وعالم اللغويات الأميركي، نعوم تشومسكي، لتفسير كيف يحول الإعلام الرسمي المهيمن الجمهور إلى "قطيع تائه"، لا يعرف شيئاً إلا ما يقوله هذا الإعلام. ولعل هذه النظرية توضح كيف يسهم هذا النوع من الدعاية السياسية في السيطرة على الرأي العام، ودفعه إلى تأييد طرف دون آخر، خلال الصراعات، وعادة ما يتم تكوين صورة ذهنية لهذا الآخر شيطانا أو عدوا متوهما. ومما يدعو إلى وقفة حقيقية للتأمل أن نظرية "القطيع التائه" ممارسة معمول بها حتى في الدول الغربية أيضا، حيث تعد بمثابة القوة الناعمة للإعلام في المجتمعات الديمقراطية، والتي تسعى إلى خدمة مصالح القوى السياسية والاقتصادية التي تتحكّم في الإعلام وتموله. وربما تحضر هنا أمثلةً ادعاءات أن البلدان التي تم غزوها تشكل خطرا على الآخرين، كامتلاكها أسلحة كيميائية، مثلما حدث في غزو أميركا العراق أو الغزو الأميركي أفغانستان تحت عباءة مكافحة الإرهاب والجماعات المتطرفة، حيث صدّق الرأي العام الأميركي هذه الادعاءات، وانساق إلى تأييد قرارات إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش، بشن الحرب المزعومة على الإرهاب في البلدين.
وربما هذا يفسر سبب عدم شعور الجمهور في البلاد العربية بفرقٍ يذكر في طرح القضايا، خصوصا ذات الطبيعة السياسية أو الأمنية، وكيفية تناولها بين الوسيلتين الإعلاميتين، الحكومية والخاصة، فحتى في حالة امتلاك القطاع الخاص الإعلام أو وجود القوانين التي تسمح بهامش معقول من حرية الرأي والتعبير، فغالبا ما تتحكم المصالح المشتركة بين مالكي الوسائل الإعلامية والنخب السياسية والرأسمالية في صياغة المنتوج الإعلامي. ولهذا، تكون المحصلة النهائية للإعلام الخاص التودّد إلى السلطة، أو عدم محاولة إزعاجها، إلا في أضيق الحدود الممكنة خشيةً من التعرّض للعقاب.

وهذا يقود مباشرة إلى الحديث عن الإعلام السوري، فبحسب "مراسلون بلا حدود"، حلت سورية في ذيل الترتيب في المنطقة العربية، وفي المرتبة 176 عالمياً في ما يتعلق بالحريات الصحافية وحرية التعبير. على سبيل المثال، دأبت وسائل إعلام النظام على ترويج فكرة "تحقيق النصر" على جماعات المعارضة أو امتلاك فصائل عسكرية في مدن سورية مختلفة أسلحة كيميائية، تعتزم استخدامها ضد المدنيين، وذلك لإبعاد الشكوك أو التهم عن النظام في حال استخدامها، كما فعل في عدة حوادث، أخذ بعضها أبعادا دولية، كما في دوما في إبريل/ نيسان الماضي، وتلتها ضربة معاكسة من الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها. وفي محاولة لدرء حالة الانصراف والسأم العام التي انتابت الجمهور السوري من الأخبار المفبركة التي تطرحها السلطات عبر إعلامها الرسمي، مما يصعب معرفة حقيقة الأحداث، ظهرت محاولات لدخول الاستثمار الخاص إلى سوق الإعلام السوري.
وبحسب تقرير استقصائي بعنوان "بروباغندا النظام.. هل تنجح في الإيقاع بين الدمشقيين وأهالي الغوطة"، فإن "المحاولات التي بدأت في إطار الانتقال إلى إعلام سوري خاص يناسب شرائح المجتمع المختلفة، كانت مثل (إبر التخدير) التي استخدمها النظام في مواجهة محاولات التغيير السياسي، والتي بدأت تظهر في العام 2006". وتشير إلى ذلك عودة وسائل الإعلام السورية بعد الثورة إلى تبني خطاب النظام إلى حد المطابقة، وتسويق رواياته خلال الثورة. حيث لم يعد تصنيف وسائل الإعلام عاما أو خاصا أمرا عمليا، بل أصبح الفرز قائما فقط على التوجه السياسي. إذ أخذت أغلب وسائل الإعلام في مناطق النظام، حكومية وخاصة، صورة الإعلام الرسمي، واصطلح على تسميتها "وسائل إعلام موالية" أو "وسائل الإعلام التابعة للنظام". ولا ريب أن النظام السوري لم يستطع أن يحرز بالضرورة مصداقية لدى المتابع السوري أو العربي أو الغربي، لكنه نجح بجدارة من خلال تبني هذا النهج الإعلامي في اختلاق حالة من الإرباك في فهم حقيقة ما يجري في سورية، بتشويه الحقائق.
وبصفة عامة، يمكن القول إنه كلما كان نظام الحكم ديمقراطيا سمح بديمقراطية الإعلام، والعكس صحيح. فحتى تتمكّن وسائل الإعلام من القيام بدورها يجب أن تعمل في جو سياسي معافى، وبأسلوب مستقل عن السلطة. بمعنى آخر، تعني استقلالية وسائل الإعلام إلغاء التشريعات المقيدة لحرية التعبير، كما تعني إنهاء (أو تقليص) احتكار النظام الحاكم للمعلومات، أو حق نشر المعلومات، لأنه كلما كانت هذه الوسائل مستقلة زادت مقدرتها على تمثيل الجماهير، وعلى القيام بوظيفتها الرقابية في الدفاع عن المصلحة العامة.
60566A08-4741-4CFA-9AEC-FE4329D24640
60566A08-4741-4CFA-9AEC-FE4329D24640
ندى أمين

كاتبة سودانية. مستشارة ومدربة في الإعلام والتنمية. عملت رئيسة قسم الإعلام في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، مكتب السودان. ومسؤولة الإعلام والمجتمع المدني في البنك الدولي، مكتب السودان. ماجستير في الإعلام من الجامعة الأميركية في واشنطن.

ندى أمين