في السيّارة مع فيروز ونزار

18 نوفمبر 2017
+ الخط -
كنت في سفر طويل بالسيارة، وإذا بمحطّة إذاعيّة تفاجئني بأغنية فيروز:

"لا تسألوني ما اسمه حبيبي// أخشى عليكم ضوعة الطيوب"...

يعجبني في أثناء الرحلات الاستماع إلى تلك الأغاني التي لا ننتظرها، لذلك أتجنّب اللجوء إلى الألبومات المعلّبة في الأقراص المضغوطة وغيرها من الوسائل الرقميّة للحفظ والتسجيل، وأفضّل القفز بين المحطّات الإذاعيّة للظفر بأغنية طواها النسيان، وما يعقُبها من تعليقات تعكس غالباً الفقر الثقافيّ الذي تعاظم في السنوات الأخيرة لدى الصحافيّين الإذاعيّين، وأغلبهم من الجيل الجديد الذي لا يقرأ ولا يبحث، ولا يقدر بالتالي على تثقيف ما يُذاع في تلك البرامج الفقيرة حسّاً ومعنى، حيث لا بديل عن الثرثرة ومشتقاتها.

سألتني ابنتي الصغيرة، وهي تنصت معي إلى صوت فيروز الملائكيّ، عن كلمة "الليلك" في قول نزار:

"والله لو بحت بأي حرف// تكدّس الليلك في الدروب"، فقلت لها مبسّطاً هو نوع من الزهور، بعد أن حدّثتها عن الشاعر نزار قباني، وقد أهملته المذيعة، فلم تذكره أو لعلّها لا تعرف أنّه صاحب الكلمات.

وحملني السؤال عن الليلك إلى تأمّلات في علاقة الشعر بالطبيعة، وكيف أنّ أعذب الشعر أقربه إليها، والأمثلة لا تخصّ عصراً دون آخر، أو ثقافة دون غيرها. ستجد ذلك في جميع العصور وجميع اللغات. في شعر امرئ القيس وعنترة، وفي قصائد أبي نواس وبشّار بن برد، وفي دواوين بدر شاكر السياب ونزار قباني.


تذمّر امرؤ القيس من الليل الطويل وهمومه فذكر موج البحر المتلاطم، ومثّل فرسه المكرّ المفرّ المقبل المدبر بجلمود صخر حطّه السيل من عل، وتغزّل عنترة بمليحته العذراء فذكر الشموس وقضيب البان والغزالة المذعورة والبدر والنجوم، وتفنّن بدر شاكر السيّاب في وصف جمال العيون فلم يجد أفضل من تشبيهها بغابتيْ نخيل، وقال:

"عيناك غابتا نخيل ساعة السحر،

أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر،

عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ،

وترقص الأضواء كالأقمار في نهَرْ.

وعلى ذلك النحو، سار شعراء الغزل قديماً وحديثاً، فاعتمدوا على جمال الكون لتصوير محاسن حبيباتهم.

وفي قصيدة نزار نزهة رائقة في أحضان الطبيعة، تبدأ بالدروب التي كستها أزهار الليلك، وتمرّ بالسواقي والمراعي والشواطئ والفراشات والغيوم وغناء العندليب، وكلّ ذلك لوصف الحبيب الذي بقي مجهول الاسم والنسب، "فلغة الشعر تحجب ما وراءها"، كما ذكر الأستاذ حسين الواد في إحدى دراساته النقديّة، معتبراً أنّ "الدلالة التي يقصد إليها الشعراء إنّما تتمثّل في تجلّي اللغة ذلك التجلّي العجيب".
42AEC1D7-8F5A-4B18-8A1C-9045C7C42C2B
عبد الرزاق قيراط

كاتب وباحث تونسي من مواليد 1965. من مؤلفاته كتاب "قالت لي الثورة" سنة 2011. وكتاب "أيامات الترويكا" سنة 2014. له مقالات متنوعة بصحف ومواقع عربية عديدة.