27 سبتمبر 2019
في السجون السورية
يأخذون على العرب أنهم لم يُبدعوا في روايات الخيال العلمي، وهذا صحيح. لكن، هل من إبداع أكبر من أدب السجون، الأدب الذي روّع كل من قرأوه. ومن الواجب الأخلاقي والإنساني والوجداني أن نعرف بعض ما يحصل في السجون السورية، بشهادة سجناء رأي، مهما كانت الطريقة التي يُوقف بها المُتهم بأخطر تهمة في العالم أن له رأياً مُخالفاً ورؤية مختلفة، سواء كان في محطة سفر أو ينتظر عند حاجز أو في مقهى رصيف، فإن عناصر الأمن تقوده بطريقةٍ فظةٍ إلى السجن، أي إلى غرفةٍ ضيقة نتنة الرائحة تضم عشرات المساجين، ومعظمهم عراة أو بلباسهم الداخلي فقط. أجساد الرجال السجناء العارية متلاصقة إلى حدٍّ يصعب تمرير خيط بين جسد وجسد، وقمة الرفاهية أن يجد بضعة سجناء مكاناً في غرفة السجن للقرفصاء أو التربع، وتتم المناوبة مع الواقفين. أحد السجناء استقبله السجان في مكتبه، ففرح في سرّه لأنه يُعامل معاملة إنسانية، فإذا بست شاشات تلفزيونية كبيرة تعرض كل منها صورة سجين عارياً.
لوحة مرعبة لم تخطر ببال سلفادور دالي، ومؤكّدٌ أن السجان يعتمد على رأي الأطباء النفسانيين في معرفة أكبر قدر من الوسائل وطرق التعامل التي تهين كرامة السجين وتُروّعه. وهذا ما ذكره المراسل الصحافي سامي الحاج، عن سجنه في غوانتانامو. يقدّمون في السجون السورية زجاجة مياه لعدة سجناء، وأخرى مماثلة فارغة، ليفرغوا فيها البول. أما البراز فثمة وعاء له في الغرفة نفسها. وجبة طعام صغيرة واحدة للسجين في اليوم. وهكذا، لا يخسر السجين السوري وزنه فقط بل يذوب. كل من عانى هذه التجربة حكى أنه خسر من وزنه بين عشرة إلى عشرين كيلو غراماً في أقل من شهر. الأهم أن أطفالاً مع هؤلاء المساجين السياسيين الراشدين يبكون من الجوع، وبعض الكبار يعطونهم حصصهم من الخبز، لأنهم لا يستطيعون تحمل أطفال يتضورون من الجوع. ويُخبئ بعضهم الخبز، إلى حين يبدأ الطفل بالبكاء جوعاً، وتهمة هؤلاء الأطفال التظاهر، أو أية تهمة أخرى (لا يهم)، كيف يمكن لهؤلاء الأطفال أن يتحمّلوا هذا الوضع. وضعهم مندسين وسط حشد من الرجال العراة المتلاصقين بشدة. أية صدمة مُروعة يتعرّض لها هؤلاء الأطفال.
المُضحك، لكيلا نبكي، أن عديدين من سجناء الرأي، كان السجان يسألهم: لماذا أنتم هنا! فيرد السجناء: أنتم من اعتقلتمونا، وأنتم من يجب أن تعرفوا. والواضح أن انعدام قيمة الإنسان السوري، والتسيب الفظيع في اعتقال الناس، وازدياد الفروع الأمنية والعمل المنفرد والمستقل لكل منها هو ما جعل السجان يسأل السجين: لماذا أنت هنا؟ سؤال لا يُصدّق، لولا أنه يحصل في السجون السورية. أحد السجناء، حين ألحّ عليه المحقّق، في السؤال عن سبب وجوده في السجن. أجاب: ربما لأنني سجين سابق. فردّ المحقق: وماذا أيضاً؟ فردّ السجين: لا أعرف، ألا يجب أن يكون ملفي عندكم، وتعرفون كل شيء عني.
ما عاد مُهماً أن تكون التهمة واضحة، حتى، وهي كذلك، لو كانت تهمةً لا إنسانية، مثل حرية الرأي والمطالبة بالحرية والكرامة، كما لو أن الغاية الأساسية والوحيدة هي إذلال كل سوري يطالب بالحرية والكرامة وإعطاء دروسٍ، لمن لم تتسع لهم السجون بأن يخرسوا تماماً. وربما لو كانت هناك أمكنة تتسع لحشد الأجساد العارية المتلاصقة للسجناء لما تردّد مدراء الفروع الأمنية في ممارسة هوايتهم تأمل السجناء عراةً، في شاشات في مكاتبهم مفرطة الأناقة.
يحصل هذا في السجون السورية. وأؤكد على الأطفال المساكين الذين لم يتعوّدوا بعد أن البكاء لا يثير شفقة وحنان الجلاد. التحقير والإهانات وترك السجين عارياً، وجعل الأجساد تتلاصق بتلك الطريقة الحقيرة المُذلة، والتجويع حتى الموت، كلها أساليب لا تقل أذىً عن العنف الجسدي، بل لعلها، كما يذكر الأطباء النفسانيون، تدمر الإنسان نفسياً، وتجعله يشعر أنه بمرتبة دون الحيوان. هل يمكن، بعد هذا الواقع، أن نعتب على الضمير العالمي، أو الدول العظمى، أو حتى دول الجوار، أنها لا تتعاطف كفايةً مع السوريين. أليس من البديهي أن يحبني وطني، ويصون لي كرامتي وحريتي. أم أن سورية استوطنتها الوحوش، واستوطنها الموت بكل أشكاله، فجعلت حوالي نصف الشعب يهجّ برّاً وبحراً وجواً ومُفضلاً أن يكون طعاماً لأسماك القرش، بدل أن يكون في وضع يسأله فيه المحقّق، وسط شاشاتٍ تعرض، باستمرار، صور سجناء رأي عراة: ما هي تهمتك؟ ولماذا أنت هنا برأيك؟ هذه هي الحالة الوحيدة التي يُسمع فيها رأي الإنسان السوري.
لوحة مرعبة لم تخطر ببال سلفادور دالي، ومؤكّدٌ أن السجان يعتمد على رأي الأطباء النفسانيين في معرفة أكبر قدر من الوسائل وطرق التعامل التي تهين كرامة السجين وتُروّعه. وهذا ما ذكره المراسل الصحافي سامي الحاج، عن سجنه في غوانتانامو. يقدّمون في السجون السورية زجاجة مياه لعدة سجناء، وأخرى مماثلة فارغة، ليفرغوا فيها البول. أما البراز فثمة وعاء له في الغرفة نفسها. وجبة طعام صغيرة واحدة للسجين في اليوم. وهكذا، لا يخسر السجين السوري وزنه فقط بل يذوب. كل من عانى هذه التجربة حكى أنه خسر من وزنه بين عشرة إلى عشرين كيلو غراماً في أقل من شهر. الأهم أن أطفالاً مع هؤلاء المساجين السياسيين الراشدين يبكون من الجوع، وبعض الكبار يعطونهم حصصهم من الخبز، لأنهم لا يستطيعون تحمل أطفال يتضورون من الجوع. ويُخبئ بعضهم الخبز، إلى حين يبدأ الطفل بالبكاء جوعاً، وتهمة هؤلاء الأطفال التظاهر، أو أية تهمة أخرى (لا يهم)، كيف يمكن لهؤلاء الأطفال أن يتحمّلوا هذا الوضع. وضعهم مندسين وسط حشد من الرجال العراة المتلاصقين بشدة. أية صدمة مُروعة يتعرّض لها هؤلاء الأطفال.
المُضحك، لكيلا نبكي، أن عديدين من سجناء الرأي، كان السجان يسألهم: لماذا أنتم هنا! فيرد السجناء: أنتم من اعتقلتمونا، وأنتم من يجب أن تعرفوا. والواضح أن انعدام قيمة الإنسان السوري، والتسيب الفظيع في اعتقال الناس، وازدياد الفروع الأمنية والعمل المنفرد والمستقل لكل منها هو ما جعل السجان يسأل السجين: لماذا أنت هنا؟ سؤال لا يُصدّق، لولا أنه يحصل في السجون السورية. أحد السجناء، حين ألحّ عليه المحقّق، في السؤال عن سبب وجوده في السجن. أجاب: ربما لأنني سجين سابق. فردّ المحقق: وماذا أيضاً؟ فردّ السجين: لا أعرف، ألا يجب أن يكون ملفي عندكم، وتعرفون كل شيء عني.
ما عاد مُهماً أن تكون التهمة واضحة، حتى، وهي كذلك، لو كانت تهمةً لا إنسانية، مثل حرية الرأي والمطالبة بالحرية والكرامة، كما لو أن الغاية الأساسية والوحيدة هي إذلال كل سوري يطالب بالحرية والكرامة وإعطاء دروسٍ، لمن لم تتسع لهم السجون بأن يخرسوا تماماً. وربما لو كانت هناك أمكنة تتسع لحشد الأجساد العارية المتلاصقة للسجناء لما تردّد مدراء الفروع الأمنية في ممارسة هوايتهم تأمل السجناء عراةً، في شاشات في مكاتبهم مفرطة الأناقة.
يحصل هذا في السجون السورية. وأؤكد على الأطفال المساكين الذين لم يتعوّدوا بعد أن البكاء لا يثير شفقة وحنان الجلاد. التحقير والإهانات وترك السجين عارياً، وجعل الأجساد تتلاصق بتلك الطريقة الحقيرة المُذلة، والتجويع حتى الموت، كلها أساليب لا تقل أذىً عن العنف الجسدي، بل لعلها، كما يذكر الأطباء النفسانيون، تدمر الإنسان نفسياً، وتجعله يشعر أنه بمرتبة دون الحيوان. هل يمكن، بعد هذا الواقع، أن نعتب على الضمير العالمي، أو الدول العظمى، أو حتى دول الجوار، أنها لا تتعاطف كفايةً مع السوريين. أليس من البديهي أن يحبني وطني، ويصون لي كرامتي وحريتي. أم أن سورية استوطنتها الوحوش، واستوطنها الموت بكل أشكاله، فجعلت حوالي نصف الشعب يهجّ برّاً وبحراً وجواً ومُفضلاً أن يكون طعاماً لأسماك القرش، بدل أن يكون في وضع يسأله فيه المحقّق، وسط شاشاتٍ تعرض، باستمرار، صور سجناء رأي عراة: ما هي تهمتك؟ ولماذا أنت هنا برأيك؟ هذه هي الحالة الوحيدة التي يُسمع فيها رأي الإنسان السوري.