في البدء كان هيكل ثم استمرت دولة يوليو

26 ابريل 2015
ظهور هيكل التلفزيوني يعكس تأثيره القوي على السياسة المصرية
+ الخط -

إن ما يجري في البلاد العربية محكوم بنظريتين؛ نظرية صراع الأجنحة، ونظرية الدولة الخفية أو الدولة العميقة، الأولى تتبنى أن السياسة هي فن التحالفات وإدارة الصراعات ودوما مع أي رئاسة جديدة تظهر قوة أجنحة تحاول أن تبحث القرب أو حصة التأثير من الحاكم الجديد رئيسا كان أو ملكا، وبالتالي ينشأ بين الأجنحة وأدواتها من مال وإعلام وعلاقات صراع يحاول به كل جناح أن يعظّم قدراته وتأثيره وحصته.

النظرية الأخرى تقول إن هناك قاعدة حكم أو مجموعة خفية هي التي تحكم من أصحاب النفوذ، ومن يتولى أو يترأس أو يدير هم وجوه فقط، وبقدر قرار هذه المجموعة عدم الإطاحة بالقائمين على الأمر بقدر استمرارهم وبقائهم، ووقتما يقررون الإطاحة بهم فلن يقفوا أمامهم، أو كما قال المخلوع مبارك في أول مداخلة له بعد الإفراج عنه على قناة صدى البلد "احنا قعدنا بنحكم والدنيا ماشيه لغاية ما الجماعة معجبهمش..." وهنا تدخل فريد الديب لإغلاق المكالمة. يعزو البعض قوة هؤلاء الأخفياء الحاكمين إلى علاقتهم بأميركا وقربهم من مصالحها.

الأستاذ والتأثير

الأستاذ هيكل رجل مهموم بالسياسة؛ وقضى فيها عمره، شهد كل تحولاتها وتغيراتها بما لم يتح لأحد غيره، وكان على مقربة من صناعة قراراتها وأحداثها، وعلى الجانب الآخر هو خير مثال على النظرية الأولى -نظرية الأجنحة- ويمكن أن تنطبق عليه النظرية الأخرى.

إلا أن أهم ما يميزه هو قدرته على جمع المعلومات، فالمعلومة التي يلتمسها في الشرق أو الغرب أو التي يأخذها من جامعي مرموق أو صحافي خبير أو رجل دولة مؤثر؛ تجعله على مقربة مما يجري وقادرا على التدخل والتأثير، والسؤال المطروح الآن هو إلى أي مدى يمكن أن يكون الأستاذ هيكل مؤثرا في ما يجري في مصر؟!

 

في أولى الحلقات من برنامجه مع لميس الحديدي الذي ظهر في نهاية ديسمبر/كانون الأول عام 2012 يتحدث عن واقعة مهمة تمت في 8 يوليو/تموز 2011، بينه وبين الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، أمير قطر، آنذاك:

يقول هيكل نقلا عن لسان الشيخ حمد: "يا أخي أنا نفسي أساعد بس مش هينفع أتعامل مع 19 واحد (يقصد المجلس العسكري). الأستاذ هيكل: ده وضع مش مستمر وقريبا هتتعامل مع واحد بس. سمعت عن اللواء السيسي. الشيخ حمد: لأ. الأستاذ هيكل: هتسمع قريب عنه. ثم يكمل حواره مع لميس "في حد تمنّع وعمل لخبطة عشان تخيّل إن ليه دور مستقبلي فأخّر الموضوع" في إشارة إلى الفريق عنان.

هذه الرواية تجعل الرجل مطلعاً على وجود ترتيبات جرت في عام الثورة لعودة المجلس العسكري للخلف وانتهاء دور قيادته في ذلك الوقت، وهو ما جرى بعد تولي مرسي الحكم بإقالة المشير طنطاوي والفريق عنان وتولي السيسي وزارة الدفاع.

تحدث الأستاذ هيكل مرة أخرى عن الفريق السيسي وزير الدفاع في حلقة 14 مارس/آذار 2013 ووصفه بأنه صاحب رؤية متكاملة وملمٌّ بما يجري حوله، وعندها كانت الحلقة تدور حول سؤال متى سينزل الجيش مرة أخرى!!

بعد عدة أشهر من حكم الإخوان، وبفعل الأخطاء أو بترصد الخصوم أو بتطلع بعضهم؛ كانت هناك رغبة في الإطاحة بالإخوان، إذ جرى اتصال بين أحد الشباب من المعارضة -قريب من جبهة الإنقاذ وقتها- وأحد القيادات الشبابية من الإخوان في مارس 2013، وقد أطلعني الأخير أن هذا الشاب أخبره أن الإخوان أمامهم شهر واحد في السلطة، وسمى له أحد القيادات الإخوانية التي تحظى بقبول، سواء من المعارضة أو من الخارج، لم يأخذ الشاب الإخواني هذا الأمر على محمل الجد بعد مرور شهر وعدم حدوث شيء، وما أخّر تدخل الجيش للإطاحة بالإخوان جاء في حديث هيكل في مارس 2013 مع لميس أنّ تدخل الجيش -إنْ تدخل- لا بد ألا يكون بأي شكل انقلابا عسكريا، ولا يبدو كذلك فلا بد من غطاء شعبي لهذا القرار؛ هذا ما أورده الأستاذ هيكل في اختلافه مع الدكتور البرادعي في حلقة ابريل 2014 حول كيفية الإطاحة!!

هناك شركاء متشاكسون؛ المعارضة المصرية والنظام القديم والدولة ممثلة في قواتها المسلحة كلهم رأوا في الإطاحة بالإخوان مصلحة مشتركة، وربما معهم بعض الحق في ذلك، ولكن اختلفوا على كيف يدار المشهد بعد الإخوان.

كانت المعارضة ترى شخصية كحمدين خاصة بعد انسحاب الدكتور البرادعي من المشهد بعد فض رابعة، ويرى النظام القديم شفيق وترى الدولة أحد القيادات العسكرية، إلا أنني وليس هناك ما يؤكد ذلك أرى أن أهم من حسم هذا الصراع بعد السيسي نفسه هو هيكل، فقد تم لقاء بينهم تكلم عنه في حلقته في آخر ديسمبر 2013 بعد زيارة قام بها الأستاذ هيكل بزيارة الخليج (الإمارات)، ولبنان، كذلك في سرد لقاءاته بالسيسي في حلقة أبريل 2014 وهو ما وصف به ترشح السيسي بمرشح الضرورة لا يحتاج حملة ولا برنامجا!!

صراع الأجنحة

ظهر دور الرجل مرة أخرى في صراع أجنحة، تكلم عنه الأستاذ هيكل في حلقته في 12 ديسمبر 2013 في تعليقه على حكم البراءة على مبارك وأن على السيسي أن يثور على نظامه، تحدث الأستاذ هيكل عن أحد أدوات السلطة التي تسمح بعودة النظام القديم ثم انتقل في الحديث إلى أشرف مروان ومجموعة نادي السفاري -مجموعة مخابراتية من خمس دول نشأت لمحاربة النفوذ السوفييتي في أفريقيا- تولى هذا النادي عن مصر أشرف مروان، ثم بعد عامين تولاها مبارك ويتداول بعضهم معلومات تفيد بأن مدير مكتب أشرف مروان في هذه المجموعة كان هو الفريق التهامي، فبدا كأنما الإشارة إلى جناح له جذور في السلطة، خاصة أن التهامي كان قد تولى المخابرات العسكرية في فترة انتهت في 2004 وبعدها تولي الرقابة الإدارية منذ 2004 وحتى 2012 وثار حديث موسع حول دوره في إعدام كل الوثائق التي تدين مبارك، ثم عاد رئيساً للمخابرات العامة بعد 3 يوليو، كانت إشارات الأستاذ هيكل رغم رمزيتها تبدو أنها تشير إلى التهامي الذي تمت إقالته أو إعفاؤه بعد أقل من عشرة أيام من هذه الحلقة، خاصة أن في الحلقة ذاتها ظهر موضوع التسريبات، وقد التفت الأستاذ فهمي هويدي في مقال له تعليقا على إعفاء الفريق التهامي إلى هذا الارتباط بين حديث هيكل، وادعاء بعضهم أن التسريبات خرجت من مكتب التهامي!!

دور هيكل في السياسة الخارجية

في السياسة الخارجية حضور نصائح الأستاذ هيكل ظاهرة في التواصل مع إيران، والعلاقة بحزب الله، ومراجعة الموقف من سورية بخلاف رؤى الرجل القوية والمهمة في ما يتصل بالأمن القومي، وعدم مناسبة أن يكون هناك تحالف مع الخليج وخصوصاً السعودية ضد إيران ولكن يجب مراعاة الخليج وإدارة المصالح معهم.

بدا انعكاس ذلك في مواقف عديدة منها ما ظهر في القمة العربية الأخيرة من خلو مقعد سورية، من ممثل، على عكس ما تراه السعودية، بل جاء ردّ وزير الخارجية سعود الفيصل شديدا على رسالة بوتين التي رحب بها السيسي.

كذلك ما ظهر في استضافة وفد من الحوثيين في 3 مارس 2013 في حين كان الموقف السعودي معارضاً وقد تجلى في عاصفة الحزم في 26 من نفس الشهر وبدا الموقف المصري المشارك غير عارف ولا متحمس تجاه المشاركة في التحالف، كما ورد في مقال جمال خاشقجي الكاتب السعودي القريب من دوائر القرار في المملكة، بما يظهر هذا التباين الذي بدا في وجهات النظر.

يبدو تأثير الرجل ظاهرا بشكل كبير في صناعة القرار السياسي على المستوى الداخلي أو الخارجي، والرجل يذهب شرقا وغربا؛ يحل ضيفا على أندية السياسة والمعلومات في إنجلترا وفرنسا ثم يلتقي القادة والمؤثرين في المنطقة في الخليج ولبنان، ثم يعود أدراجه محملا بمعلومات وحاملا لرسائل ومصدرا لقرارات كثيرة.

لكن كما يقول الشاعر: ومكلف الأشياء فوق طباعها... متطلبٌ في الماء جذوة نار، فالواقع والقرارات التي تصلحه أعقد من صراعات الأجنحة، والدولة ومؤسساتها أكثر شيخوخة من تلك التي حملت عنفوان وجرأة دولة يوليو الأولى لتقود دولة يوليو الثانية لمستقر آمن.