12 نوفمبر 2024
في البحث عن معنى العام الجديد
محمد طلبة رضوان
أقول لصديقتي السودانية: هل تتوقعين رحيله؟ فتقول: أتمنى، وإن لن يتغير شيءٌ إذا رحل، فكلهم مثل عمر البشير.. أعود إلى تاريخ السودان القريب، فأجد شعبا لا يملّ من الصراخ، ثورات وانتفاضات واحتجاجات، ودماء غزيرة روت أشجار الحرية في هذا الوادي الخصيب، فإذا ما نضجت ثمارها وقعت في حجر المستبدّين، ثورات تحولت انقلابات، وأحياء ماتوا ليحكمنا أموات، إسلاميون وعلمانيون، يمينيون ويساريون، عسكر ومدنيون، الجميع تناوبوا على السودان، وزادوه شقاءً، فما الجديد هذه المرة؟ ولماذا لا يرحل البشير ليأتي الأسوأ كما رحل في مصر حسني مبارك ليأتي عبدالفتاح السيسي؟ وهل خطط السودانيون ليفلتوا من هذا المصير، أم هي العفوية الحرة دوما في خدمة الاستبداد المنظم؟!
في مصر، يبشروننا هذا العام بتغيير الدستور، يسمّونه "الإصلاح السياسي"، كما يسمّي البشير ثورة الناس على حكمه مؤامرة على الإسلام، ويطالب شرطته بالقصاص. الإصلاح في مصر هو أن يحكم السيسي مدى الحياة. الغريب أن بعضهم تعامل مع فكرة تعديل الدستور بوصفها مفاجأة، أو مدعاة للتحسّر، وكأن ثمة شيئا في مصر اسمه "دستور"، والأغرب أنه لم يزل في سودان البشير "إسلام"!
مات جمال خاشقجي، نشروه بالمناشير، مات أطفال اليمن، ورجاله ونساؤه وشيوخه، وحاضره كله، ماتوا بالمنشار نفسه. كان خاشقجي محظوظا، نشروه دفعة واحدة، فيما يُنشر اليمنيون بالتقسيط. الجرائم واضحة، راسخة، ثابتة، بالصوت والصورة، واعتراف الجاني، وشهادة الشهود، لكن شيئا لم يتغير، فكلهم البشير والسيسي ومحمد بن سلمان وبشار الأسد، القاتل يقتل، ويحكم، والأيام تسير..
ليس العالم الديمقراطي أكثر حظا، كما يبدو، فالرجل الأبيض يتصوّر أنه يختار من يحكمه، فيما يحكمه هو ومن يحكمه "السوق". قالها ترامب صراحة، ولم يخجل. ليست دماء خاشقجي أهم مما تدفعه السعودية، فلتذهب القيم الأميركية إلى الجحيم، هذا إن كانت هناك قيم أميركية أصلا، أصحاب السترات الصفراء، في باريس، لا يختلفون كثيرا عن رفاقهم في الخرطوم، على الرغم من سنوات الضوء التي تفصل الثقافتين، الفارق أن الاستبداد الأبيض أكثر ذكاء.
الفنانون والمثقفون والأدباء، هؤلاء الذين يمنحنون العالم جماله، ينحازون بدورهم لقبح الطغاة، يغنّون ويرقصون في مواكب الاستبداد، حتى أولئك الذين يغنون لقيم الحرية، إذا جاءت لحظة العطش، شربوا من نهر البلوى، وكانوا مثل جيش طالوت!
عديدون من رجال الدين، من القساوسة والشيوخ، ووعّاظ الفضائيات، أصحاب القداسة، لا حاجة هنا لاستعراض مآسيهم، ففضائحهم، من المحيط إلى الخليج، توشك أن تأتي على بنيان الدين نفسه، حتى الحرم لم يسلم من نفاق الأمير "المحدث"، الغول والعنقاء والخلّ الوفي والشيخ الشريف، مستحيلات هذا العالم الفارغ من المعنى، ثم ماذا بعد؟
لا أعرف لبداية الأوقات ونهايتها معنىً ومغزىً وقيمة سوى النقد، ذلك الذي يعتبره الطغاة خيانة، والشيوخ كفرا وتجديفا، وإعلام الأنظمة مؤامرةً، والآباء المتسلطون قلة أدبٍ وتربيةٍ. الوقوف أمام الزمن للتأمل وإعادة الحسابات، رأس السنة، بالنسبة لي، هو رأسها الذي يفكر، ولا يكفّ. ما الفارق بين اليوم والأمس والغد إن لم يكن "فرصةً" متخيلة للتردّد بشأن الاستمرار، وإعادة التفكير في طريقة أخرى، للمقاومة، للجدوى، للانتصار، أليس من حقنا أن ننتصر؟
مجرد الاستمرار في هذه الحياة عمل نضالي. الكتابة مقاومة، الإصرار على الحلم ثورةٌ على الواقع. الثوار، وحدهم، يستحقون التهنئة بالعام الجديد، فيما تصدُق فتاوى تحريم المعايدة على من سواهم، لكن شيئا ما ينقصُ هذا كله ليصبح له معنى، شيء علينا أن نبحث عنه ونجده، فإن لم نجده أوجدناه.
شغلني هذا السؤال كثيرا طوال العام، لماذا لا ينتصر الثوار إلا في الماضي البعيد، لماذا لا ينتصر أصحاب القيمة، والنيات الصادقة؟ ما الذي ينقصنا؟ وأين الخلل؟ لم تعد الإجابات الجاهزة تجدي، بعد كل ما كابدناه في مخاضات الربيع العربي، فالجميع هزموا، على الرغم من رهانهم على ما لديهم، أصحاب الدين، وأصحاب الدنيا، وحدهم أصحاب الحاكم يضحكون كثيرا، لكن ليس أخيرا، ثمّة عام جديد، وبداية جديدة وفرصة، ستمنح من يفهمها ويستغلها، فهل من مفكّر؟
مات جمال خاشقجي، نشروه بالمناشير، مات أطفال اليمن، ورجاله ونساؤه وشيوخه، وحاضره كله، ماتوا بالمنشار نفسه. كان خاشقجي محظوظا، نشروه دفعة واحدة، فيما يُنشر اليمنيون بالتقسيط. الجرائم واضحة، راسخة، ثابتة، بالصوت والصورة، واعتراف الجاني، وشهادة الشهود، لكن شيئا لم يتغير، فكلهم البشير والسيسي ومحمد بن سلمان وبشار الأسد، القاتل يقتل، ويحكم، والأيام تسير..
ليس العالم الديمقراطي أكثر حظا، كما يبدو، فالرجل الأبيض يتصوّر أنه يختار من يحكمه، فيما يحكمه هو ومن يحكمه "السوق". قالها ترامب صراحة، ولم يخجل. ليست دماء خاشقجي أهم مما تدفعه السعودية، فلتذهب القيم الأميركية إلى الجحيم، هذا إن كانت هناك قيم أميركية أصلا، أصحاب السترات الصفراء، في باريس، لا يختلفون كثيرا عن رفاقهم في الخرطوم، على الرغم من سنوات الضوء التي تفصل الثقافتين، الفارق أن الاستبداد الأبيض أكثر ذكاء.
الفنانون والمثقفون والأدباء، هؤلاء الذين يمنحنون العالم جماله، ينحازون بدورهم لقبح الطغاة، يغنّون ويرقصون في مواكب الاستبداد، حتى أولئك الذين يغنون لقيم الحرية، إذا جاءت لحظة العطش، شربوا من نهر البلوى، وكانوا مثل جيش طالوت!
عديدون من رجال الدين، من القساوسة والشيوخ، ووعّاظ الفضائيات، أصحاب القداسة، لا حاجة هنا لاستعراض مآسيهم، ففضائحهم، من المحيط إلى الخليج، توشك أن تأتي على بنيان الدين نفسه، حتى الحرم لم يسلم من نفاق الأمير "المحدث"، الغول والعنقاء والخلّ الوفي والشيخ الشريف، مستحيلات هذا العالم الفارغ من المعنى، ثم ماذا بعد؟
لا أعرف لبداية الأوقات ونهايتها معنىً ومغزىً وقيمة سوى النقد، ذلك الذي يعتبره الطغاة خيانة، والشيوخ كفرا وتجديفا، وإعلام الأنظمة مؤامرةً، والآباء المتسلطون قلة أدبٍ وتربيةٍ. الوقوف أمام الزمن للتأمل وإعادة الحسابات، رأس السنة، بالنسبة لي، هو رأسها الذي يفكر، ولا يكفّ. ما الفارق بين اليوم والأمس والغد إن لم يكن "فرصةً" متخيلة للتردّد بشأن الاستمرار، وإعادة التفكير في طريقة أخرى، للمقاومة، للجدوى، للانتصار، أليس من حقنا أن ننتصر؟
مجرد الاستمرار في هذه الحياة عمل نضالي. الكتابة مقاومة، الإصرار على الحلم ثورةٌ على الواقع. الثوار، وحدهم، يستحقون التهنئة بالعام الجديد، فيما تصدُق فتاوى تحريم المعايدة على من سواهم، لكن شيئا ما ينقصُ هذا كله ليصبح له معنى، شيء علينا أن نبحث عنه ونجده، فإن لم نجده أوجدناه.
شغلني هذا السؤال كثيرا طوال العام، لماذا لا ينتصر الثوار إلا في الماضي البعيد، لماذا لا ينتصر أصحاب القيمة، والنيات الصادقة؟ ما الذي ينقصنا؟ وأين الخلل؟ لم تعد الإجابات الجاهزة تجدي، بعد كل ما كابدناه في مخاضات الربيع العربي، فالجميع هزموا، على الرغم من رهانهم على ما لديهم، أصحاب الدين، وأصحاب الدنيا، وحدهم أصحاب الحاكم يضحكون كثيرا، لكن ليس أخيرا، ثمّة عام جديد، وبداية جديدة وفرصة، ستمنح من يفهمها ويستغلها، فهل من مفكّر؟
مقالات أخرى
05 نوفمبر 2024
29 أكتوبر 2024
22 أكتوبر 2024