26 أكتوبر 2020
في الانحياز الأخلاقي
أنس أزرق
في أعقاب نشر بعض الإساءات التي تعرّضت لشخصي، وتراوحت بين النقد العصبي والتشهير المغرض، اقترح علي بعض الأصدقاء أن أكتب نصاً قصيراً، يوضّح علاقتي بالنظام في سورية.. وعن علاقتي ببشار الأسد، وعن علاقتي بحزب الله.
والحقيقة أن المعارضات في مراحل أزمات الأنظمة الشمولية تواجه مأزق الهوية، والتوسع في كل مكان. فَلَو بقيت على معارضي النظام في مرحلة قوته لبقيت أقلية صغيرة، وتوسّع المعارضة يأتيها غالبا بقطاعاتٍ واسعة من الناس، وغالبيتهم لم تكن أصلا مسيسةً أو عاشوا في ظل الخوف، وتصرّفوا على هذا الأساس. ومع حدوث الاستقطاب بين الشعب والنظام، تتدفق كوادر من النظام وضباطه ومسؤوليه.
وأنا لم أكن أحد مسؤولي النظام، ولَم أسع (ولا أسعى) إلى تسلم منصب قيادي، أو غير قيادي في المعارضة السورية.
كنت أعمل في الإعلام، وبالتالي لا يكشف أحد أسراراً بهذا الشأن. فليس سراً أنني بدأت حياتي الإعلامية مذيعاً في التلفزيون الرسمي السوري، وتدرجت في المواقع الإدارية المختلفة، وقدمت برامج كثيرة، أشهرها "خير جليس" و"حديث الأربعاء"، كما عرفت بشار الأسد قبل أن يصير رئيساً، ورافقته بصفتي إعلامياً في عديد من زياراته الرئاسية في ما بعد. وكنت أول إعلامي سوري يقابل الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، على شاشة التلفزيون السوري. وكنت منظماً وحاضراً معظم الفعاليات التي غطت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والاعتداءات الإسرائيلية على لبنان وفلسطين. وأتذكر، في هذا السياق، أنني أيضا كنت أول من قابل على الهواء مباشرة، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس (السابق)، خالد مشعل، والأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، رمضان شلح. وجميع هؤلاء كانوا أبطالاً وقادة مقاومةٍ في الوجدان العربي والسوري في تلك الفترة.
وأيضا، ليس سراً أنني كنت مديراً لمكتب تلفزيون المنار التابع لحزب الله في دمشق، عدة
سنوات، وقدت العمل من المكتب نفسه الذي كنت أدير منه برامج الفضائية السورية.
نعم، كنتُ على علاقة جيدة بصنّاع القرار السياسي والأمني في سورية، ولا سيما قمة الهرم بشار الأسد، وكنت أتمتع بهوامش كثيرة، وقد استغللتها إلى أقصى حد، كما حصل عندما استضفت على الهواء مباشرة شخصيات مثقفة، معارضة أو مستقلة، كثيرة، لا يعجب النظام خطابها، وعندي عشرات الأمثلة. (ميشيل كيلو، الطيب تيزيني، لؤي صافي، سارية الرفاعي، رضوان زيادة، أحمد برقاوي، وغيرهم ممن أعتز بصداقتهم).
لم أكن يوماً ممن يستمعون لتعليمات مخبري الأمن، وإنما كنت أتصرف ضمن الهامش الذي أحسب أنني تمتعت به، وضمن أقصى ما يسمح به الظرف. وحدث، في بعض الأحيان، أنني قفزت فوق ذلك الهامش، فتم إيقاف بعض حلقات البرنامج، كالحلقة التي حاورت فيها الباحث جمال باروت عن كتابه عن مذكرات أحمد نهاد السياف الذي يتحدث عن الطائفة المرشدية، وانتهاء بإيقاف البرنامج، بسبب حلقة أخيرة كان ضيفها على الهواء المفكر الإسلامي، الشيخ جودت سعيد.
لا أدعي دور البطولة هنا. وأعيد التأكيد إنني كنت جزءاً من إعلام النظام، مثل غالبية الصحافيين السوريين، ولكني حاولت أن أكون ضمن من يستغلون أي هامش متاح وتوسيعه، خلافا لمن عملوا على تضييق أي هامش وكانوا ملكيين أكثر من الملك. حاولت، مثل كثيرين غيري، أن أستغل فسحة استلام بشار الحكم، ووعوده الإصلاحية القصيرة الأجل، للدفع باتجاه سورية أفضل. وكان هذا وهماً.
نعم، استفدت من النظام وعشت في بعض مزاياه، وقدّمت موادَّ لو أتيح لي الرجوع إلى الوراء لما قدّمتها، ويستحق بعضها الاعتذار عنها (وأنا حقاً أعتذر عنها) بسبب مساهمته بتبييض صفحة نظامٍ كان يجب أن أدرك في وقت أبكر أنه غير قابل للإصلاح. إلا أنني في المقابل أعتز بكثير مما قدمته، وقد فتح بعضه ثقوباً صغيرة جداً برداء الإعلام الأسود. وكان يعتبر، بمقاييس التلفزيون السوري، نشازاً وخروجاً عن التقاليد البائسة فيه.
لا أدّعي أنني كنت معارضاً، ولم يخطر ببالي استفزاز الأمن أو السلطات حينها. وكنت أعتقد أن الخط الإصلاحي هو الذي يخدمنا معا، نظاماً ومواطنين. ولذا، عندما قامت الثورة، كتبت مقالةً بعنوان "الشعب يريد والرئيس يريد معه"، على أمل (سيتبين فيما بعد أنه كان ساذجاً) أن يكون بشار حاملا مطالب شعبه. وكتبت عدة مواد، مستغلا ارتباك النظام أمام الحالة الثورية، مثل "ممنوع التصوير"، "شبيحة ومندسون". ولم أشارك بمنصات النظام، حيث كان يقف بعض المزايدين من الإعلاميين، ويخطبون في الجماهير المسيّرة رغماً عن إرادتها.
أخذت قراراً واعياً بأنني لن أتحول إلى شبّيح، أو متاجر بالدم السوري، حيث عمل بعض الزملاء بالواسطات لإطلاق سراح مخطوفين أو معتقلين، وجنى بعضهم من هذا الأمر ثرواتٍ، ونال بعضهم مناصب. وكان نضالي الأخلاقي اليومي ألا أنساق إلى تأييد وجهة النظام وترويجها بشكل أعمى، ولاسيما أن المغريات كبيرة، وفي المقابل هناك من يطلب رأسك.
جاهرت بضرورة إلغاء المادة الثامنة في الدستور السوري، وصياغة دستور جديد في اللقاء التشاوري الذي ترأسه الرجل النظيف، فاروق الشرع، في يونيو/ حزيران 2011، وهو اللقاء الذي خرج بمقرراتٍ لو طبقها بشار، لكنّا اليوم في مكان آخر تماماً.
تابعت عملي خائفاً على حياتي، ولا سيما أنني كنت، بحكم عملي في "المنار"، أرى وأحضر
وأعاين أماكن ولقاءات لم تكن متاحةً لغيري. وقررت تنظيم خروجي من سورية، ولم يكن هذا أمراً سهلاً، ليس فقط بسبب حساسية عملي، وإنما أيضاً لأسبابٍ تتعلق بأسرتي وعائلتي وخروجهم، ولاعتبارات كثيرة. والآن، عندما أفكر بتلك الفترة خصوصاً، أتمنى لو أنها كانت أقصر. أقلّه كنت أعفيت نفسي من مهام قمت بها، وأشعر اليوم بالخجل حين أتذكّرها.
غادرت بصمت منتصف عام 2013، ومع انتهاء العام الدراسي لأولادي. ولم أرد، لأسباب تتعلق بطبيعتي الشخصية، أن أستعرض أو أستفيد إعلامياً من هذا الأمر. لم أصوّر أو أكتب أي شيء عما يسميه الآخرون انشقاقاً، وأفضّل أن أسميه انحيازاً أخلاقياً، بعيداً عن محاولة ادّعاء أية بطولة شخصية، هي بالمقاييس السورية للبطولة تكاد تنتهي إلى الصفر.
بعد خروجي وبقائي فترة قصيرة في الإمارات، انتقلت إلى الدوحة. وبحكم ما أتقن من عمل في الحياة، عملت في صحيفة العربي الجديد، وفِي مؤسسة ميتافورا للإنتاج، وأشرفت على إنتاج مسلسل "وجوه وأماكن". ثم انتقلت إلى مشروع جديد، هو العمل، مع زملاء سوريين آخرين، على مشروع إعلامي، هو تلفزيون سوريا، وهو مؤسسة إعلامية سورية غير محايدة، إذ تلتزم بسورية موحدة تعدّدية وديمقراطية، ولكنها مؤسسة إعلامية مهنية، وليست حزباً أو تياراً سياسياً. ولا تتبع هذه المؤسسة لشخص ولا لمجموعة أشخاص، بل تحاول أن تكون للشعب السوري وقضيته العادلة. إنها لا تدّعي تمثيل الشعب السوري، ولكنها سوف تحاول أن تستنطقه، لكي يمثل نفسه على شاشتها، وعبر برامج إخبارية وفنية وثقافية منوعة. ولهذا، جذبتني هذه المؤسسة، وجذبت كثيرين غيري، للمساهمة فيها من إعلاميين وفنانين وصحافيين معارضين للعمل فيها. كان بعضهم معارضاً وما زال، وآخرون أصبحوا معارضين ومناضلين. ولكن لا يدعي أيٌّ منهم تمثيل المعارضة، فمن المفترض أن يخدموا شعبهم وقضيته بتواضع، وذلك بمهنيّتهم ومهاراتهم الصحافية والفنية.
والحقيقة أن المعارضات في مراحل أزمات الأنظمة الشمولية تواجه مأزق الهوية، والتوسع في كل مكان. فَلَو بقيت على معارضي النظام في مرحلة قوته لبقيت أقلية صغيرة، وتوسّع المعارضة يأتيها غالبا بقطاعاتٍ واسعة من الناس، وغالبيتهم لم تكن أصلا مسيسةً أو عاشوا في ظل الخوف، وتصرّفوا على هذا الأساس. ومع حدوث الاستقطاب بين الشعب والنظام، تتدفق كوادر من النظام وضباطه ومسؤوليه.
وأنا لم أكن أحد مسؤولي النظام، ولَم أسع (ولا أسعى) إلى تسلم منصب قيادي، أو غير قيادي في المعارضة السورية.
كنت أعمل في الإعلام، وبالتالي لا يكشف أحد أسراراً بهذا الشأن. فليس سراً أنني بدأت حياتي الإعلامية مذيعاً في التلفزيون الرسمي السوري، وتدرجت في المواقع الإدارية المختلفة، وقدمت برامج كثيرة، أشهرها "خير جليس" و"حديث الأربعاء"، كما عرفت بشار الأسد قبل أن يصير رئيساً، ورافقته بصفتي إعلامياً في عديد من زياراته الرئاسية في ما بعد. وكنت أول إعلامي سوري يقابل الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، على شاشة التلفزيون السوري. وكنت منظماً وحاضراً معظم الفعاليات التي غطت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والاعتداءات الإسرائيلية على لبنان وفلسطين. وأتذكر، في هذا السياق، أنني أيضا كنت أول من قابل على الهواء مباشرة، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس (السابق)، خالد مشعل، والأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، رمضان شلح. وجميع هؤلاء كانوا أبطالاً وقادة مقاومةٍ في الوجدان العربي والسوري في تلك الفترة.
وأيضا، ليس سراً أنني كنت مديراً لمكتب تلفزيون المنار التابع لحزب الله في دمشق، عدة
نعم، كنتُ على علاقة جيدة بصنّاع القرار السياسي والأمني في سورية، ولا سيما قمة الهرم بشار الأسد، وكنت أتمتع بهوامش كثيرة، وقد استغللتها إلى أقصى حد، كما حصل عندما استضفت على الهواء مباشرة شخصيات مثقفة، معارضة أو مستقلة، كثيرة، لا يعجب النظام خطابها، وعندي عشرات الأمثلة. (ميشيل كيلو، الطيب تيزيني، لؤي صافي، سارية الرفاعي، رضوان زيادة، أحمد برقاوي، وغيرهم ممن أعتز بصداقتهم).
لم أكن يوماً ممن يستمعون لتعليمات مخبري الأمن، وإنما كنت أتصرف ضمن الهامش الذي أحسب أنني تمتعت به، وضمن أقصى ما يسمح به الظرف. وحدث، في بعض الأحيان، أنني قفزت فوق ذلك الهامش، فتم إيقاف بعض حلقات البرنامج، كالحلقة التي حاورت فيها الباحث جمال باروت عن كتابه عن مذكرات أحمد نهاد السياف الذي يتحدث عن الطائفة المرشدية، وانتهاء بإيقاف البرنامج، بسبب حلقة أخيرة كان ضيفها على الهواء المفكر الإسلامي، الشيخ جودت سعيد.
لا أدعي دور البطولة هنا. وأعيد التأكيد إنني كنت جزءاً من إعلام النظام، مثل غالبية الصحافيين السوريين، ولكني حاولت أن أكون ضمن من يستغلون أي هامش متاح وتوسيعه، خلافا لمن عملوا على تضييق أي هامش وكانوا ملكيين أكثر من الملك. حاولت، مثل كثيرين غيري، أن أستغل فسحة استلام بشار الحكم، ووعوده الإصلاحية القصيرة الأجل، للدفع باتجاه سورية أفضل. وكان هذا وهماً.
نعم، استفدت من النظام وعشت في بعض مزاياه، وقدّمت موادَّ لو أتيح لي الرجوع إلى الوراء لما قدّمتها، ويستحق بعضها الاعتذار عنها (وأنا حقاً أعتذر عنها) بسبب مساهمته بتبييض صفحة نظامٍ كان يجب أن أدرك في وقت أبكر أنه غير قابل للإصلاح. إلا أنني في المقابل أعتز بكثير مما قدمته، وقد فتح بعضه ثقوباً صغيرة جداً برداء الإعلام الأسود. وكان يعتبر، بمقاييس التلفزيون السوري، نشازاً وخروجاً عن التقاليد البائسة فيه.
لا أدّعي أنني كنت معارضاً، ولم يخطر ببالي استفزاز الأمن أو السلطات حينها. وكنت أعتقد أن الخط الإصلاحي هو الذي يخدمنا معا، نظاماً ومواطنين. ولذا، عندما قامت الثورة، كتبت مقالةً بعنوان "الشعب يريد والرئيس يريد معه"، على أمل (سيتبين فيما بعد أنه كان ساذجاً) أن يكون بشار حاملا مطالب شعبه. وكتبت عدة مواد، مستغلا ارتباك النظام أمام الحالة الثورية، مثل "ممنوع التصوير"، "شبيحة ومندسون". ولم أشارك بمنصات النظام، حيث كان يقف بعض المزايدين من الإعلاميين، ويخطبون في الجماهير المسيّرة رغماً عن إرادتها.
أخذت قراراً واعياً بأنني لن أتحول إلى شبّيح، أو متاجر بالدم السوري، حيث عمل بعض الزملاء بالواسطات لإطلاق سراح مخطوفين أو معتقلين، وجنى بعضهم من هذا الأمر ثرواتٍ، ونال بعضهم مناصب. وكان نضالي الأخلاقي اليومي ألا أنساق إلى تأييد وجهة النظام وترويجها بشكل أعمى، ولاسيما أن المغريات كبيرة، وفي المقابل هناك من يطلب رأسك.
جاهرت بضرورة إلغاء المادة الثامنة في الدستور السوري، وصياغة دستور جديد في اللقاء التشاوري الذي ترأسه الرجل النظيف، فاروق الشرع، في يونيو/ حزيران 2011، وهو اللقاء الذي خرج بمقرراتٍ لو طبقها بشار، لكنّا اليوم في مكان آخر تماماً.
تابعت عملي خائفاً على حياتي، ولا سيما أنني كنت، بحكم عملي في "المنار"، أرى وأحضر
غادرت بصمت منتصف عام 2013، ومع انتهاء العام الدراسي لأولادي. ولم أرد، لأسباب تتعلق بطبيعتي الشخصية، أن أستعرض أو أستفيد إعلامياً من هذا الأمر. لم أصوّر أو أكتب أي شيء عما يسميه الآخرون انشقاقاً، وأفضّل أن أسميه انحيازاً أخلاقياً، بعيداً عن محاولة ادّعاء أية بطولة شخصية، هي بالمقاييس السورية للبطولة تكاد تنتهي إلى الصفر.
بعد خروجي وبقائي فترة قصيرة في الإمارات، انتقلت إلى الدوحة. وبحكم ما أتقن من عمل في الحياة، عملت في صحيفة العربي الجديد، وفِي مؤسسة ميتافورا للإنتاج، وأشرفت على إنتاج مسلسل "وجوه وأماكن". ثم انتقلت إلى مشروع جديد، هو العمل، مع زملاء سوريين آخرين، على مشروع إعلامي، هو تلفزيون سوريا، وهو مؤسسة إعلامية سورية غير محايدة، إذ تلتزم بسورية موحدة تعدّدية وديمقراطية، ولكنها مؤسسة إعلامية مهنية، وليست حزباً أو تياراً سياسياً. ولا تتبع هذه المؤسسة لشخص ولا لمجموعة أشخاص، بل تحاول أن تكون للشعب السوري وقضيته العادلة. إنها لا تدّعي تمثيل الشعب السوري، ولكنها سوف تحاول أن تستنطقه، لكي يمثل نفسه على شاشتها، وعبر برامج إخبارية وفنية وثقافية منوعة. ولهذا، جذبتني هذه المؤسسة، وجذبت كثيرين غيري، للمساهمة فيها من إعلاميين وفنانين وصحافيين معارضين للعمل فيها. كان بعضهم معارضاً وما زال، وآخرون أصبحوا معارضين ومناضلين. ولكن لا يدعي أيٌّ منهم تمثيل المعارضة، فمن المفترض أن يخدموا شعبهم وقضيته بتواضع، وذلك بمهنيّتهم ومهاراتهم الصحافية والفنية.
دلالات
مقالات أخرى
28 سبتمبر 2020
19 مايو 2020
31 أكتوبر 2019