07 ديسمبر 2023
في استمرار وحدة الجنوب اليمني
في وقت تعامى اتفاق الرياض بين الحكومة الشرعية اليمنية والمجلس الجنوبي الانتقالي عن قضية الوحدة أو فك الارتباط بالجنوب، فلم يذكرهما بالمطلق، وتعامل مع إشكالية الوضع في الجنوب وكأنها مشكلة شراكة سلطة، يحتفل أنصار المجلس الانتقالي بعيد استقلال الجنوب في 30 نوفمبر بطقوسٍ محاكية لطقوس الحكومات، وليس باعتباره فصيلا سياسيا.
اتفاق استوكهولم الذي تم توقيعه في ديسمبر/ كانون الأول 2018، لوقف معارك التحالف في الساحل الغربي، هو عملياً اتفاق وضع حداً للحرب، ولأي عملية عسكرية محتملة للتحالف، وصارت الحرب مجرّد وضع غائم بين اللاسلم واللاحرب، وهذا تأكّد في اتفاق الرياض، حيث لم يذكر الحوثي خصما، بل طرفا مفاوضا. إضافة إلى هذا، أنهى اتفاق الرياض فكرة وجود الحكومة الشرعية، فهو تحدث عنها طرفا في الصراع، وليس مرجعية سياسية ودستورية.
كانت كل المسارات السياسية والعسكرية تؤدي إلى هذه النتيجة، نهاية الشرعية السياسية والدستورية التي كانت تقوم عليها الدولة اليمنية منذ عام 1990، أو ربما بشكل أدق منذ عام 1994م، أي نهاية الدولة بشكلها الحالي، ونهاية الوحدة اليمنية التي قضى عليها اجتياح مليشيا طائفية للعاصمة صنعاء في سبتمبر/ أيلول 2014، ولم تنجح كل محاولات إنقاذ تلك الدولة سواء سياسياً أو عسكرياً.
عملياً، لم تعد الوحدة اليمنية محل تساؤل، فماذا تبقى منها؟ لا يستطيع الشماليون دخول عدن
والتنقل والإقامة في الجنوب بحريتهم، وهذه نتيجة طبيعية لتحلّل الدولة واستيلاء الحوثيين على العاصمة صنعاء. كما إن الحركات الإمامية في اليمن كانت دوماً، بسبب طبيعتها المذهبية – السلالية، مضادة لاستمرار الوحدة اليمنية، الأمر الذي كانت تستثمره دوماً أطراف خارجية. وقد ذكر أمين الريحاني في كتابه "ملوك العرب" أنه في أثناء زيارته اليمن، حدّثه أحد مشايخ القبائل الجنوبية، بأنه على الرغم من أنهم مسلمون، فهم يرون في بريطانيا حامياً لهم من مذلة الإمام الذي قد يأخذ أبناءهم رهائن لديه.
ما هو مصير الجنوب؟ هل سيستمر موحداً؟ هل هذا ممكنٌ في ظل الواقع الحالي، حيث ينقسم إلى شرق (لحج، الضالع، أبين وعدن) تحت سيطرة المجلس الانتقالي، وغرب (شبوه، حضرموت والمهره)، وهي غالبية مساحة الجنوب، تحت سيطرة قوى مختلفة بمظلة الحكومة الشرعية.
كانت معركة شبوه كاشفة حقائق كثيرة، فعوضاً عن أن يتعامل المجلس الانتقالي مع التركيبة القبلية للمحافظة بحذر كثير، اندفع نحوها غير مراعٍ كل الحساسيات القبلية والمناطقية. وعندما استعصت عليه شبوه، استعرت حرب كلامية مناطقية بين الطرفين، كشفت عمق الانقسام المناطقي بين الطرفين، وليس الحديث عن جنوبٍ موحدٍ أمراً بالبداهة التي يحاول أن يقدّمها المجلس الانتقالي.
منذ بداية الحراك الجنوبي في عام 2003، تحاول قيادات، ومثقفون جنوبيون، تعزيز مطالب الانفصال، بالحديث عن وجود هوية جنوبية مختلفة، غير مكتفين بالأساس السياسي للقضية الجنوبية ومطالبها، الأمر الذي اصطدم بحقائق التاريخ والمجتمع، فلا يمكن الحديث عن شبوه من دون معرفة ارتباطاتها القبلية بمحافظة مأرب في الشمال، ولا يمكن تصور مجتمع عدن، بكل أطيافه المتنوعة، من دون ملاحظة الحضور القوي لمدينة تعز الشمالية وأبنائها، بل إن أبرز المحافظات الجنوبية المتحمسة للانفصال، وأكبر المهيمنين على المجلس الانتقالي، وهي الضالع كانت جزءا من الشمال حتى ثلاثينات القرن الماضي، وغيرها من حقائق تاريخية واجتماعية كثيرة تصعّب من إيجاد حدود فاصلة ونهائية بين الشمال والجنوب.
يمكن الاختلاف في سرد التاريخ، ولكن حقائق الجغرافيا تظل جامدة، ولذا فإن محاولة الشعوبيين
تأسيس هوية جنوبية، أبرز ملامحها معاداة الشمال الملاصق للجنوب جغرافياً، بكل ما يعنيه هذا على مستوى التاريخ والمجتمع، أدت إلى فشل محاولة تأسيس هوية غير قادرة على الانفتاح لأقرب جوار لها. وهذا النمط من الهويات الصدامي لا يمكنه الانفتاح على أي أفق، وبالتالي مصيره التشرذم الداخلي، وإفراز لا نهائي لهوياتٍ أخرى أصغر.
تحدّث مثقفون جنوبيون أكثر وعياً عن مشروع سياسي جنوبي مختلف، وأكثر امتداداً لتجربة الحزب الاشتراكي، مركّزين على الطابع المدني لحكمه في مقابل الطابع القبلي لحكم الشمال، لكنهم لم يصمدوا أمام تيار الشعبوية والتغييرات الاجتماعية والسياسية في الجنوب، والتي تجعل من الحديث عن عدن الليبرالية المنفتحة على العالم في عهد الاستعمار البريطاني، أو العدالة الاجتماعية في مرحلة حكم الحزب الاشتراكي، أحلاما ونوستالجيا، بعد أن أدّت الحالة الشعبوية إلى تصاعد النعرات المناطقية، ولأن الهوية المناطقية بدون أي سياسة كانت تحتاج سندا أيديولوجيا، وكان الدين، في هذه الحالة، هو العنصر الأيديولوجي الأكثر مناسبة، ما يعد أحد أسباب صعود التيارات السلفية في الجنوب.
أدّى غياب المشروع السياسي باعتباره أحد أهم مقومات محاولات تأسيس هوية وطنية إلى تعثر كل محاولات تأسيس هوية جنوبية، وهي قضيةٌ استهلكت الجنوبيين كثيراً، فمشكلة الهوية عميقة في المناطق التي تعرّضت للاستعمار، وهي متعددة الأبعاد في الجنوب الذي لم يكن موحداً سوى 23 عاماً في عهد الحزب الاشتراكي، قبلها في عهد الاستعمار البريطاني كان الجنوب عشرات المحميات والسلاطين.
بديهي أن أي طرف خارجي، لكي يضمن سيطرته، يعزز الانقسام في مناطق سيطرته. وقد ساعدت البريطانيين على هذا طبيعة الجغرافيا في الجنوب، مساحات شاسعة وتشتت سكاني مع قلة وجود مراكز حضرية محورية وجاذبة لمحيطها القبلي أو الريفي، حيث لا توجد مراكز حضرية سوى في حضرموت التي كانت منفصلةً عن بقية الجنوب. أما عدن فكانت في عهد الاستعمار البريطاني منفتحةً على العالم كله، لكنها معزولة عن بقية الجنوب، وغير مسموح بدخول بعض أبناء الجنوب للمدينة.
وتكمن عظمة ثورة 14 أكتوبر في أنها استطاعت إطلاق عمليات مقاومة مسلحة ضد البريطانيين في ظل هذا التشرذم، متغلبة على عوامل التخلف الشديدة في مناطق المحميات الجنوبية، وعزلتها
عن المستعمرة البريطانية في عدن، وهي تجربة الكفاح المسلح الوحيدة ضد الاستعمار في منطقة الجزيرة العربية، وأدّت إلى انسحاب بريطانيا من المنطقة كاملة عام 1971، بعد انسحابها من اليمن في 1967. واللافت أن المجلس الانتقالي الذي يحتفل بثورة أكتوبر واستقلال الجنوب في نوفمبر هو بذاته الذي تبنّى تسمية الجنوب العربي، وهي تسمية تناقض ثورة أكتوبر التي قامت ضد هذا الكيان الاستعماري، وأصرت على تبني الهوية اليمنية عاملا موحدا للجنوبيين. وإشكالية هذه التسمية في عدة أمور، أولها أن اتحاد الجنوب العربي لم تنخرط فيه أجزاء واسعة، مثل حضرموت والمهره. كما إنها تسمية تصالحية مع الماضي الاستعماري، وتكشف حالةً من انعدام الحساسية من التدخلات الخارجية، ما يتسق مع ما قاله رئيس المجلس، عيدروس الزبيدي، في لندن عن بريطانيا "الصديقة"، لأنهم جلبوا "الاستقرار والأمن لمدينة عدن" على حد وصفه، ما يفرغ ثورة أكتوبر من محتواها، ويتعامى عن حجم معاناة الجنوب من الاستعمار.
بسيطرة الحوثيين على صنعاء، انقسم اليمن إلى شمال وجنوب. وبسيطرة المجلس الانتقالي على عدن، انقسم الجنوب إلى شرق وغرب. وكلا الطرفين لا يملكان مشروعاً سياسياً واضح الملامح، معتمدين على التحشيد الجماهيري والهوية، مع فارق أن المجلس الانتقالي ليس بتماسك الحوثيين وتنظيمهم، ولا يرث مؤسسات الدولة، كما الحوثي في صنعاء، أو كما سلفه الجبهة القومية بعد البريطانيين في عدن. إضافة إلى إشكاليات إرث الانقسامات في الجنوب، وعرضة الجنوب للتدخلات الخارجية أكثر من الشمال دوماً لساحله البحري الطويل، إضافة إلى نشاط تنظيم القاعدة في بعض مناطقه.
كانت كل المسارات السياسية والعسكرية تؤدي إلى هذه النتيجة، نهاية الشرعية السياسية والدستورية التي كانت تقوم عليها الدولة اليمنية منذ عام 1990، أو ربما بشكل أدق منذ عام 1994م، أي نهاية الدولة بشكلها الحالي، ونهاية الوحدة اليمنية التي قضى عليها اجتياح مليشيا طائفية للعاصمة صنعاء في سبتمبر/ أيلول 2014، ولم تنجح كل محاولات إنقاذ تلك الدولة سواء سياسياً أو عسكرياً.
عملياً، لم تعد الوحدة اليمنية محل تساؤل، فماذا تبقى منها؟ لا يستطيع الشماليون دخول عدن
ما هو مصير الجنوب؟ هل سيستمر موحداً؟ هل هذا ممكنٌ في ظل الواقع الحالي، حيث ينقسم إلى شرق (لحج، الضالع، أبين وعدن) تحت سيطرة المجلس الانتقالي، وغرب (شبوه، حضرموت والمهره)، وهي غالبية مساحة الجنوب، تحت سيطرة قوى مختلفة بمظلة الحكومة الشرعية.
كانت معركة شبوه كاشفة حقائق كثيرة، فعوضاً عن أن يتعامل المجلس الانتقالي مع التركيبة القبلية للمحافظة بحذر كثير، اندفع نحوها غير مراعٍ كل الحساسيات القبلية والمناطقية. وعندما استعصت عليه شبوه، استعرت حرب كلامية مناطقية بين الطرفين، كشفت عمق الانقسام المناطقي بين الطرفين، وليس الحديث عن جنوبٍ موحدٍ أمراً بالبداهة التي يحاول أن يقدّمها المجلس الانتقالي.
منذ بداية الحراك الجنوبي في عام 2003، تحاول قيادات، ومثقفون جنوبيون، تعزيز مطالب الانفصال، بالحديث عن وجود هوية جنوبية مختلفة، غير مكتفين بالأساس السياسي للقضية الجنوبية ومطالبها، الأمر الذي اصطدم بحقائق التاريخ والمجتمع، فلا يمكن الحديث عن شبوه من دون معرفة ارتباطاتها القبلية بمحافظة مأرب في الشمال، ولا يمكن تصور مجتمع عدن، بكل أطيافه المتنوعة، من دون ملاحظة الحضور القوي لمدينة تعز الشمالية وأبنائها، بل إن أبرز المحافظات الجنوبية المتحمسة للانفصال، وأكبر المهيمنين على المجلس الانتقالي، وهي الضالع كانت جزءا من الشمال حتى ثلاثينات القرن الماضي، وغيرها من حقائق تاريخية واجتماعية كثيرة تصعّب من إيجاد حدود فاصلة ونهائية بين الشمال والجنوب.
يمكن الاختلاف في سرد التاريخ، ولكن حقائق الجغرافيا تظل جامدة، ولذا فإن محاولة الشعوبيين
تحدّث مثقفون جنوبيون أكثر وعياً عن مشروع سياسي جنوبي مختلف، وأكثر امتداداً لتجربة الحزب الاشتراكي، مركّزين على الطابع المدني لحكمه في مقابل الطابع القبلي لحكم الشمال، لكنهم لم يصمدوا أمام تيار الشعبوية والتغييرات الاجتماعية والسياسية في الجنوب، والتي تجعل من الحديث عن عدن الليبرالية المنفتحة على العالم في عهد الاستعمار البريطاني، أو العدالة الاجتماعية في مرحلة حكم الحزب الاشتراكي، أحلاما ونوستالجيا، بعد أن أدّت الحالة الشعبوية إلى تصاعد النعرات المناطقية، ولأن الهوية المناطقية بدون أي سياسة كانت تحتاج سندا أيديولوجيا، وكان الدين، في هذه الحالة، هو العنصر الأيديولوجي الأكثر مناسبة، ما يعد أحد أسباب صعود التيارات السلفية في الجنوب.
أدّى غياب المشروع السياسي باعتباره أحد أهم مقومات محاولات تأسيس هوية وطنية إلى تعثر كل محاولات تأسيس هوية جنوبية، وهي قضيةٌ استهلكت الجنوبيين كثيراً، فمشكلة الهوية عميقة في المناطق التي تعرّضت للاستعمار، وهي متعددة الأبعاد في الجنوب الذي لم يكن موحداً سوى 23 عاماً في عهد الحزب الاشتراكي، قبلها في عهد الاستعمار البريطاني كان الجنوب عشرات المحميات والسلاطين.
بديهي أن أي طرف خارجي، لكي يضمن سيطرته، يعزز الانقسام في مناطق سيطرته. وقد ساعدت البريطانيين على هذا طبيعة الجغرافيا في الجنوب، مساحات شاسعة وتشتت سكاني مع قلة وجود مراكز حضرية محورية وجاذبة لمحيطها القبلي أو الريفي، حيث لا توجد مراكز حضرية سوى في حضرموت التي كانت منفصلةً عن بقية الجنوب. أما عدن فكانت في عهد الاستعمار البريطاني منفتحةً على العالم كله، لكنها معزولة عن بقية الجنوب، وغير مسموح بدخول بعض أبناء الجنوب للمدينة.
وتكمن عظمة ثورة 14 أكتوبر في أنها استطاعت إطلاق عمليات مقاومة مسلحة ضد البريطانيين في ظل هذا التشرذم، متغلبة على عوامل التخلف الشديدة في مناطق المحميات الجنوبية، وعزلتها
بسيطرة الحوثيين على صنعاء، انقسم اليمن إلى شمال وجنوب. وبسيطرة المجلس الانتقالي على عدن، انقسم الجنوب إلى شرق وغرب. وكلا الطرفين لا يملكان مشروعاً سياسياً واضح الملامح، معتمدين على التحشيد الجماهيري والهوية، مع فارق أن المجلس الانتقالي ليس بتماسك الحوثيين وتنظيمهم، ولا يرث مؤسسات الدولة، كما الحوثي في صنعاء، أو كما سلفه الجبهة القومية بعد البريطانيين في عدن. إضافة إلى إشكاليات إرث الانقسامات في الجنوب، وعرضة الجنوب للتدخلات الخارجية أكثر من الشمال دوماً لساحله البحري الطويل، إضافة إلى نشاط تنظيم القاعدة في بعض مناطقه.