31 أكتوبر 2024
في استحضار الوعي التاريخي
نظلم هذه الذات الجماعية، ونلحق بها سلسلة ثقيلة من الرضوض والكسور الفظيعة، عندما نحشرها في خانة التمجيد والدفاع المجاني عن تناسقها وتناغمها الافتراضي. إننا نحكم عليها بالإتلاف، أو لنقل نمارس عليها عملية إخصاء قبل الأوان، فنشرع في تشييد طوابق جذابة من الغزل والإطراء، لنؤطر أنفسنا بتطلعاتٍ يشوبها الغموض والتنافر وعدم الانسجام، ويحدث هذا من دون أن نتجشّم عناء الالتفات إلى الأخطاء الكثيرة التي تولينا مهمة توفير الشروط الملائمة لانتشارها العمودي والأفقي في جغرافيتنا وعلاقاتنا، هذه الأخطاء التي تختزل، بكثافة، انهيارنا الداخلي، وجراحنا النرجسية المترعة بالندم المتأصل في بؤرنا الواعية واللاواعية.
أوجدنا من أنفسنا مادة للاستهلاك الساذج والتناول السطحي، وحولنا كل ما يمت إلينا بصلة إلى علامات مغلفة بالتقديس، ولم نعمد إلى الخلخلة الجذرية لأساسيات التطور وإواليات التحرّك باتجاه مواقع متقدمة، تفسح المجال أمام إمكانات متعددة لإعلان انتمائنا إلى الحاضر المتحول باستمرار، والانخراط في معترك الأسئلة الجوهرية، المنحوتة من صلصال الإحساس الجماعي بضرورة التغيير المعقلن لصورة الذات الجماعية، والبحث عن شكل وظيفي لها، بما يموضعها في البقعة الدينامكية من قارة الإبداع والخلق والإسهام النوعي في صياغة القيم الكبرى والمشاريع التوّاقة إلى أن يتمتع المواطن العربي بالتوازن والثقة والقدرة على اختراق الجدران السميكة التي اعتاد أن يواجهها ويكابدها في حياته المطبوعة بالتقلب والترقب والتردّد.
وعلى الرغم من هذه المؤشرات غير المطمئنة، فإن التفكير في ارتياد أفق بديل للذات الجماعية المصابة بالعقم والهشاشة لم يتحقق، لأن الثوابت التي ظلت صامدة في فضائنا العام تترجم، بوضوح، ذلك الإجماع شبه التلقائي لنبذ منطق التطور. وفي المقابل، الإبقاء على حالة الثبات التي عادة ما تكون مصحوبة بارتياحٍ يصعب عقلنته وتفسيره، اللهم إذا اقتنعنا أن عناصر هذه الذات ومكوناتها تعشق التدمير وتؤله العذابات والآفات، باعتبارها سلاحاً وهمياً، يحول دون فقدان أمل التمترس في الموقع نفسه، الذي هو، على كل حال، موقع هش وآيل للسقوط في كل لحظة،علماً أن هذا السقوط، وعلى الرغم من كل تداعياته وأعراضه، لم يتحول إلى مدرك عقلي قابل للتأمل والمساءلة الذكية، كيما يتسنى لنا احتلال مكانٍ ينطق بهويتنا الحضارية، ويمثلنا على الأصعدة كافة، لاسيما أن من لا حضور له في العالم، وفي صناعة التاريخ، كمن لا شرايين له تسري فيها دماء الحياة، وتتناسل عبرها العلامات الدالة على الخلق والاجتهاد والانطلاق والتجديد والتحديث.
هل نعادي التاريخ أم التاريخ يعادينا؟ لماذا ارتضينا لأنفسنا المكوث في هذا المكان الظلي المطبوع بالشحوب؟ لماذا وقعنا في فخ تنظيم الغياب وتقعيد التهميش؟
هي مجرد أسئلةٍ، تتغيا السفر عبر تضاريس ذاتنا الجماعية، لنقترب من بعض أعطابها وأزماتها، ولنفتح نوافذ عريضة، تمكّننا من التوغل في ما تراكم من تلفيق ونفاق وأخطاء، أضحت، مع مرور الأيام والأعوام والعقود، عبئاً يصعب التخلص منه، وهذه خطوة لابد منها، لضمان طفرة حقيقية، تحصننا من الأوبئة القاتلة واللاغية أي شرط يسمح بتشكل نظرة نموذجية، تمتهن التجاوز وتراهن على المستقبل، والتي من المفروض أن تكون ترجماناً للعطاء والإنتاج والفعالية.
نورّط، أحياناً، أنفسنا في متاهاتٍ مسيجة برؤية ميتافزيقية، ونجد سعادةً لا مثيل لها، كلما عللنا
كوارثنا ومآسينا بمنطق خرافي. إننا نرفض باستمرار الاعتراف بقصورنا وسلبياتنا. وفي المقابل، نواسي ونهدهد صورتنا المهزوزة بتحميل التاريخ وسياقاته ما جنيناه من سقطاتٍ ونوازل، من دون بذل أدنى مجهود لتقديم نقد ذاتي، ينتصب حكماً نبيهاً بيننا وبين ما اعترانا من فواجع وضربات. وأكثر من هذا، ترسّخت في أعماقنا المظلمة وقناعاتنا المضطربة نزوعات شاذة، تنم عن الانفصام والانعزال والإغراق في التنقيب عمن نلصق به تهمة الوصول إلى هذا الوضع المشروخ والمتصدع، والمليء باللوحات الكاريكاتورية التي ما فتئت تتكاثر وتتأصل في أنساقنا المادية والرمزية. وهكذا، اعتنقنا وبحرارة سلوكاتٍ لا تتقن سوى تعميم التواكل والاستسلام والقبول الطوعي بصفة التخلف والتقوقع واللاحركة. فقدنا آليات التحكم في المسار، فتشظت بنيتنا بكيفية تراجيدية، مشخصة بذلك رعبنا المسكوت عنه، وتهافتنا السري المسربل بمختلف الأصباغ والمساحيق. تبوأنا الأمكنة المعتمة، حيث لا مساحة للشمس فيها، فحرمنا من نشوة وخدر التباهي بجمالية الصورة التي من المفروض أن تجسد تنوعنا وتعددنا ومخزوننا الثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي الخصب.
حلمنا بالنهضة والتقدم والسير في ركاب الأمم المبدعة، ورفعنا شعارات ومصطلحات كثيرة، نطقناها بمختلف اللغات والخطابات، وعرّضناها لما لا حصر له من الاستعمالات التي هي، في مطلق الأحوال، منصاعة ومستجيبة لمقاصد الأيديولوجيا وأهداف الاستقطاب والتجاذب وتكوين الجماعات المحترفة للتضليل وبث القناعات الهشة في نفوس من ينظر إليهم على أنهم الدرع الواقي، والقلعة الصلبة لمجابهة تطاول خصوم ومتآمرين، يصعب تحديد هويتهم، فتنزلق الذات، مرة أخرى، لتجد نفسها سجينة رهانات افتراضية لا تعزف سوى إيقاعات الوهم والخديعة والمخاتلة. وهذا هو الدليل الدامغ على قدرتنا الفعلية وطاقتنا الجبارة الملمة بأسرار وخبايا إنتاج اليأس وتنظيم الغياب ظاهرة سوسيو-ثقافية وسياسية، انتشرت بشكل لافت في أنسجتنا وفضاءاتنا ومؤسساتنا.
وتأسيساً على ذلك، فقدنا مناعة ضرورية لا غنى لنا عنها، عندما أخللنا بركنٍ جوهري في مسلسل الانتقالات الكبرى والمصيرية، يُختزل هذا الركن في ضرورة استحضار مفهوم الوعي التاريخي، والوعي بالمسؤولية سلوكاً وقيمة وإدراكاً بخطورة (ودقة) السياقات والتحديات التاريخية التي نواجهها.
كان من المفروض أن تصبح المنطقة العربية نموذجاً تنموياً وديمقراطياً منذ سنوات، فهي، بثقل تاريخها وخصوصية جغرافيتها، وبخصوبة ثقافتها ووحده لغتها، وبموقعها الجيو ـ استراتيجي، لا يمكن إلا أن تكون بنية قوية ومتماسكة ومتلاحمة، تتوفر على مقومات المناعة التي تضمن العافية، واستقرار الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية، خصوصاً إذا كانت السياقات الدولية الراهنة لا تعترف، ولا تقبل، إلا بالذين حسموا صراعاتهم وخلافاتهم حول نموذج الحكم، ورتبوا شؤون بيوتهم الداخلية، وأغلقوا ملفاتٍ عويصةً تتعلق باحتقانات التاريخ وبالتنمية والتوازنات، والفوارق الاجتماعية والجهوية، والصحة والشغل، والتربية والتعليم وحقوق الإنسان، بمفهومها الشامل وحرية التعبير إلخ. .. لأنه، ببساطة، لا يمكن لأي مجموعة أن تكون موضع ثقة ومصداقية، إذا كان نسيجها الداخلي ممزقاً، ومن المستبعد أن يُنصَت إليها ويؤخذ برأيها في مختلف القضايا.
أوجدنا من أنفسنا مادة للاستهلاك الساذج والتناول السطحي، وحولنا كل ما يمت إلينا بصلة إلى علامات مغلفة بالتقديس، ولم نعمد إلى الخلخلة الجذرية لأساسيات التطور وإواليات التحرّك باتجاه مواقع متقدمة، تفسح المجال أمام إمكانات متعددة لإعلان انتمائنا إلى الحاضر المتحول باستمرار، والانخراط في معترك الأسئلة الجوهرية، المنحوتة من صلصال الإحساس الجماعي بضرورة التغيير المعقلن لصورة الذات الجماعية، والبحث عن شكل وظيفي لها، بما يموضعها في البقعة الدينامكية من قارة الإبداع والخلق والإسهام النوعي في صياغة القيم الكبرى والمشاريع التوّاقة إلى أن يتمتع المواطن العربي بالتوازن والثقة والقدرة على اختراق الجدران السميكة التي اعتاد أن يواجهها ويكابدها في حياته المطبوعة بالتقلب والترقب والتردّد.
وعلى الرغم من هذه المؤشرات غير المطمئنة، فإن التفكير في ارتياد أفق بديل للذات الجماعية المصابة بالعقم والهشاشة لم يتحقق، لأن الثوابت التي ظلت صامدة في فضائنا العام تترجم، بوضوح، ذلك الإجماع شبه التلقائي لنبذ منطق التطور. وفي المقابل، الإبقاء على حالة الثبات التي عادة ما تكون مصحوبة بارتياحٍ يصعب عقلنته وتفسيره، اللهم إذا اقتنعنا أن عناصر هذه الذات ومكوناتها تعشق التدمير وتؤله العذابات والآفات، باعتبارها سلاحاً وهمياً، يحول دون فقدان أمل التمترس في الموقع نفسه، الذي هو، على كل حال، موقع هش وآيل للسقوط في كل لحظة،علماً أن هذا السقوط، وعلى الرغم من كل تداعياته وأعراضه، لم يتحول إلى مدرك عقلي قابل للتأمل والمساءلة الذكية، كيما يتسنى لنا احتلال مكانٍ ينطق بهويتنا الحضارية، ويمثلنا على الأصعدة كافة، لاسيما أن من لا حضور له في العالم، وفي صناعة التاريخ، كمن لا شرايين له تسري فيها دماء الحياة، وتتناسل عبرها العلامات الدالة على الخلق والاجتهاد والانطلاق والتجديد والتحديث.
هل نعادي التاريخ أم التاريخ يعادينا؟ لماذا ارتضينا لأنفسنا المكوث في هذا المكان الظلي المطبوع بالشحوب؟ لماذا وقعنا في فخ تنظيم الغياب وتقعيد التهميش؟
هي مجرد أسئلةٍ، تتغيا السفر عبر تضاريس ذاتنا الجماعية، لنقترب من بعض أعطابها وأزماتها، ولنفتح نوافذ عريضة، تمكّننا من التوغل في ما تراكم من تلفيق ونفاق وأخطاء، أضحت، مع مرور الأيام والأعوام والعقود، عبئاً يصعب التخلص منه، وهذه خطوة لابد منها، لضمان طفرة حقيقية، تحصننا من الأوبئة القاتلة واللاغية أي شرط يسمح بتشكل نظرة نموذجية، تمتهن التجاوز وتراهن على المستقبل، والتي من المفروض أن تكون ترجماناً للعطاء والإنتاج والفعالية.
نورّط، أحياناً، أنفسنا في متاهاتٍ مسيجة برؤية ميتافزيقية، ونجد سعادةً لا مثيل لها، كلما عللنا
حلمنا بالنهضة والتقدم والسير في ركاب الأمم المبدعة، ورفعنا شعارات ومصطلحات كثيرة، نطقناها بمختلف اللغات والخطابات، وعرّضناها لما لا حصر له من الاستعمالات التي هي، في مطلق الأحوال، منصاعة ومستجيبة لمقاصد الأيديولوجيا وأهداف الاستقطاب والتجاذب وتكوين الجماعات المحترفة للتضليل وبث القناعات الهشة في نفوس من ينظر إليهم على أنهم الدرع الواقي، والقلعة الصلبة لمجابهة تطاول خصوم ومتآمرين، يصعب تحديد هويتهم، فتنزلق الذات، مرة أخرى، لتجد نفسها سجينة رهانات افتراضية لا تعزف سوى إيقاعات الوهم والخديعة والمخاتلة. وهذا هو الدليل الدامغ على قدرتنا الفعلية وطاقتنا الجبارة الملمة بأسرار وخبايا إنتاج اليأس وتنظيم الغياب ظاهرة سوسيو-ثقافية وسياسية، انتشرت بشكل لافت في أنسجتنا وفضاءاتنا ومؤسساتنا.
وتأسيساً على ذلك، فقدنا مناعة ضرورية لا غنى لنا عنها، عندما أخللنا بركنٍ جوهري في مسلسل الانتقالات الكبرى والمصيرية، يُختزل هذا الركن في ضرورة استحضار مفهوم الوعي التاريخي، والوعي بالمسؤولية سلوكاً وقيمة وإدراكاً بخطورة (ودقة) السياقات والتحديات التاريخية التي نواجهها.
كان من المفروض أن تصبح المنطقة العربية نموذجاً تنموياً وديمقراطياً منذ سنوات، فهي، بثقل تاريخها وخصوصية جغرافيتها، وبخصوبة ثقافتها ووحده لغتها، وبموقعها الجيو ـ استراتيجي، لا يمكن إلا أن تكون بنية قوية ومتماسكة ومتلاحمة، تتوفر على مقومات المناعة التي تضمن العافية، واستقرار الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية، خصوصاً إذا كانت السياقات الدولية الراهنة لا تعترف، ولا تقبل، إلا بالذين حسموا صراعاتهم وخلافاتهم حول نموذج الحكم، ورتبوا شؤون بيوتهم الداخلية، وأغلقوا ملفاتٍ عويصةً تتعلق باحتقانات التاريخ وبالتنمية والتوازنات، والفوارق الاجتماعية والجهوية، والصحة والشغل، والتربية والتعليم وحقوق الإنسان، بمفهومها الشامل وحرية التعبير إلخ. .. لأنه، ببساطة، لا يمكن لأي مجموعة أن تكون موضع ثقة ومصداقية، إذا كان نسيجها الداخلي ممزقاً، ومن المستبعد أن يُنصَت إليها ويؤخذ برأيها في مختلف القضايا.