09 نوفمبر 2024
في إنصاف محمود عباس
ليس في الرئيس محمود عباس أيٌّ من علامات الزعامة، وملكاتُه لقيادة الشعب الفلسطيني شحيحة، ومدهشٌ فيه أنه لم يعمل يوما من أجل أن تكون له شعبيةٌ كثيرة. وإلى أموره هذه (وغيرها)، يجعلك هذا الرجل عندما تسمع خطاباته، في الأمم المتحدة مثلا، تشعر بالحرج لأنك تسمعها، لركاكتها وفقر مضامينها وندرة منطوقها الوطني الجامع. أما شرعيته في مواقعه، رئيسا للسلطة الوطنية وللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ولحركة فتح، فإذا قيل إنها شاخت، فهذا من تمثيلات أمراض الحالة الفلسطينية العامة التي اهترأت فيها مؤسسات تمثيل الشعب، في منظمة التحرير وغيرها. ولأن التشخيص العام لحال محمود عباس هو هذا، وربما أكثر، فإن الطخّ عليه في تعاليق الكتاب والمتكلمين في السياسة بالغُ اليسر، ويلقى هوىً عريضا في مجتمعاتنا العربية، ويستقبله فلسطينيون كثيرون بإعجاباتٍ غزيرة. وبديهيٌّ، أصلا، أن مجتمعاتٍ تحبّ صدّام حسين وأحمدي نجاد، وتتعاطف مع بن لادن ربما، ستكون فيها أمكنة أمثال محمود عباس ضيقة. وهي مجتمعاتٌ، بسبب فائض الهزائم فيها منذ خمسين عاما مثلا، وأطنان الفشل في إقامة أوطانٍ حرّة حقا، لا تجد غير كثرة الشهداء والتضحيات فيها سببا للزهو. وسنين طوالا كان بيتُ الشعر إياه عن ظلام السجن الذي يُستدعى ليخيّم مفخرةً للتطاوس، قبل أن يتذكّر شباب الربيع العربي أن الشعب إذا أراد الحياة يوما لا بد أن يستجيب القدر.
ولمّا كان محمود عباس يحوز الشمائل أعلاه، فإن الدفاع عنه سيُشبه الذهاب إلى معركةٍ خاسرةٍ سلفا، سيما في بيئات مجتمعاتٍ يطمئنها على مستقبلها كلامٌ من يحيى السنوار وزياد نخّالة، ويشيع فيها كلام أصحاب شهاداتٍ عليا فيها عن كورونا مؤامرةً أميركية (أو صينية)، ويرى مثقفون عربٌ، يساريون تقدّميون، في الخلاف بين دول خليجيةٍ فخّارا يكسّر بعضه. واحترازا هنا من أي تقويلٍ، ليست مهمّة سطور هذه المقالة الدفاع عن عباس في مواجهة نوبة التعريض به التي استجدّت، أخيرا، بعد إعلانه أن السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينيتين في حلٍّ من الالتزامات الأمنية (والمدنية بالمناسبة) مع الاحتلال الإسرائيلي. وإنما التنويه بأهم منجزٍ كبير صنعه محمود عباس للشعب الفلسطيني، إنقاذه من مذابح كانت ستصير مؤكّدة، لو أن الرجل لم يرَ غير ما رأى، أن أحوال هذا الشعب، منذ سنوات، لا تتوفر على شروط مقاومةٍ مسلحةٍ تحقق إنجازاتٍ، ناهيك عن نبذه العمليات الاستشهادية (تسميتها انتحارية جائزة، مع الإجلال المؤكّد لأرواح الشهداء الذين قاموا بها).
صحيحٌ أن أوهاما أشاعتها نخب أوسلو الفلسطينية عن ممكنات دولةٍ سيأتي بها الاتفاق الشهير، غير أن عباس نفسه، وهو الذي وقع الاتفاق (بيده اليسرى)، قالها في تلك الأيام، قبل 27 عاما، إن الفلسطينيين لن يأخذوا أكثر مما سيعطيه لهم الإسرائيليون. ولمّا كان شارون يقول إن محمود عباس صوصٌ منتوف الريش، كان صاحبنا يعرف أنه كذلك بشأن التصدّي لجائحات الدبابات والصواريخ الإسرائيلية في غير عدوان، إلا أنه أيضا كان يعرف، وما زال، أنه ليس منتوف الريش أبدا إذا ما حافظ الشعب الفلسطيني على مؤسساتٍ تؤمن له أسباب التطبيب (من كورونا مثلا) والتعليم والدفاع المدني والحماية من الجريمة، في ظل سلطةٍ، يعرف عباس، قبل محمد نزّال (ما أخباره؟) مثلا، أنها تحت الاحتلال، وأن تحرير فلسطين لم يتم بعد.
ليس في أرشيف عباس تصريحٌ دان فيه عمليةً للمقاومة المسلحة استهدفت جنودا محتلين (فعل ذلك مرّة سلام فياض). ومع كل سوء أدائه التفاوضي، إلا أنه لم يوقّع على أي التزامٍ أمام الإسرائيليين بأي تنازلٍ عن أي مساحةٍ من فلسطين المحتلة 1967. ومع شناعة مسلكه في غير شأن، فإنه ليس المسؤول وحده عن الانقسام الراهن، وإنما تتحمّل حركة حماس النصيب الأوفر عنه. وهي التي ارتجلت، وإنْ بنيةٍ مخلصةٍ، قصة مسيرات العودة، ولمّا قضى 60 شهيدا في أول أيام هذه المسيرات، لم يدفعها هذا العدد الفادح إلى مراجعة مبادرتها تلك، أو الاعتذار عنها، ثم سقط نحو ثلاثمائة شهيد في هذه المسيرات، وفقد مئاتٌ سيقانهم فيها، ولم ينخدش جندي إسرائيلي واحد، ولم تحرز المسيرات العودة ولا فك الحصار عن قطاع غزة ... لا يفعل عباس مثل هذا، لأنه يعرف أن قتل إسرائيليين في حافلة أو مقهى سيقابله المحتلون بالمذابح، وبتدمير شروط حياة الفلسطينيين، وحقولهم، وضرب مؤسساتهم، ووقائع مخيم جنين وغيره في العام 2003 غير منسية. وعندما يعلن وقف التنسيق الأمني (والمدني) مع إسرائيل، فمن الكياسة، لدى النخبة المثقفة، أن تنتظر جدّية هذا أو عدمها، ولا تعمد إلى قياس الشاهد على الغائب، فلا تفعل كما الذين شرّقوا وغرّبوا بشأن مسلسلٍ تلفزيوني، ولم يشاهدوا أيا من حلقاته.
صحيحٌ أن أوهاما أشاعتها نخب أوسلو الفلسطينية عن ممكنات دولةٍ سيأتي بها الاتفاق الشهير، غير أن عباس نفسه، وهو الذي وقع الاتفاق (بيده اليسرى)، قالها في تلك الأيام، قبل 27 عاما، إن الفلسطينيين لن يأخذوا أكثر مما سيعطيه لهم الإسرائيليون. ولمّا كان شارون يقول إن محمود عباس صوصٌ منتوف الريش، كان صاحبنا يعرف أنه كذلك بشأن التصدّي لجائحات الدبابات والصواريخ الإسرائيلية في غير عدوان، إلا أنه أيضا كان يعرف، وما زال، أنه ليس منتوف الريش أبدا إذا ما حافظ الشعب الفلسطيني على مؤسساتٍ تؤمن له أسباب التطبيب (من كورونا مثلا) والتعليم والدفاع المدني والحماية من الجريمة، في ظل سلطةٍ، يعرف عباس، قبل محمد نزّال (ما أخباره؟) مثلا، أنها تحت الاحتلال، وأن تحرير فلسطين لم يتم بعد.
ليس في أرشيف عباس تصريحٌ دان فيه عمليةً للمقاومة المسلحة استهدفت جنودا محتلين (فعل ذلك مرّة سلام فياض). ومع كل سوء أدائه التفاوضي، إلا أنه لم يوقّع على أي التزامٍ أمام الإسرائيليين بأي تنازلٍ عن أي مساحةٍ من فلسطين المحتلة 1967. ومع شناعة مسلكه في غير شأن، فإنه ليس المسؤول وحده عن الانقسام الراهن، وإنما تتحمّل حركة حماس النصيب الأوفر عنه. وهي التي ارتجلت، وإنْ بنيةٍ مخلصةٍ، قصة مسيرات العودة، ولمّا قضى 60 شهيدا في أول أيام هذه المسيرات، لم يدفعها هذا العدد الفادح إلى مراجعة مبادرتها تلك، أو الاعتذار عنها، ثم سقط نحو ثلاثمائة شهيد في هذه المسيرات، وفقد مئاتٌ سيقانهم فيها، ولم ينخدش جندي إسرائيلي واحد، ولم تحرز المسيرات العودة ولا فك الحصار عن قطاع غزة ... لا يفعل عباس مثل هذا، لأنه يعرف أن قتل إسرائيليين في حافلة أو مقهى سيقابله المحتلون بالمذابح، وبتدمير شروط حياة الفلسطينيين، وحقولهم، وضرب مؤسساتهم، ووقائع مخيم جنين وغيره في العام 2003 غير منسية. وعندما يعلن وقف التنسيق الأمني (والمدني) مع إسرائيل، فمن الكياسة، لدى النخبة المثقفة، أن تنتظر جدّية هذا أو عدمها، ولا تعمد إلى قياس الشاهد على الغائب، فلا تفعل كما الذين شرّقوا وغرّبوا بشأن مسلسلٍ تلفزيوني، ولم يشاهدوا أيا من حلقاته.