في أننا نعيش نهاية عصر

21 ابريل 2014
+ الخط -
يتذكر المخضرمون، مثلي، كيف أن بياناتنا وبرامجنا، نحن "التقدميين"، كانت تُفتتحُ، قبل أربعة عقود مضت، بلازمةٍ ضرورية، هي أن عصرنا سمتُه الانتقال إلى الاشتراكية. وأن هذا الانتقال لا ريب في حدوثه، لأن الرأسمالية مصيرها الاندحار، من ناحية، ولأن الاشتراكية تشكل مرحلةً أعلى، في سُلّم التقدم المندفع صعوداً، من ناحية أخرى.  
لم يكن تعريفـ"نا" لـ"سمة العصر" من نوافل الأمور، فقد كنا نرى أن الاشتراكية مآل البشرية. وهذه كانت تتقدم بخطىً، لا رادّ لها في داخل التاريخ الصاعد نحو تمامه. ولم نكن نُسائل التعريفَ بالطبع. إذ كيف يُسأل الإيمان؟ ألا يعصمه وضوحه من المساءلة؟
قد يشرح هذا شيئاً من فقرنا الفكري المريع، لكنه يمكن أن يشكل، قبل ذلك، مناسبةً صالحةً للحديث عن الأهواء الجمعية، وتبدلاتها، على وجه العموم، وعن تلك الأهواء التي تتسلل حالياً إلى أفئدتنا، وتستبطن مشاعرنا، وتستوطن أفكارنا، على وجه الخصوص. وأحاول، في هذا الحيز المحدود، أن أقتصر على ملاحظتين مترابطتين، تتصلان، بالضرورة، بانهيار الأساطير، أو بتبددها.
أولاهما تتعلق بالعقل والعقلانية. وبيانها أنه، منذ انتشار مدرسة التحليل النفسي الفرويدية، وخصوصاً منذ أعمال مدرسة فرانكفورت في النظرية الاجتماعية، تغيرت النظرة إلى العقلانية. فما عاد ممكناً التعامل مع العقل (بالمعنى الديكارتي، وليس بالمعنى الأرسطي والرشدي) على أنه كينونة سيِّدة. غدت اللاعقلانيةُ نظيرَه، والقاعدةَ التي تسند العقلَ، وتوجه قراراته وأحكامه. صرنا نعرف، اليوم، أن اللاعقلانية هي الطبقة العميقة الثاوية في أُسّ العقل وتدفعُ في توجهاته.
يتصل بذلك استنتاج بسيط، لكنه حاسم. ليس الإنسان حيواناً عاقلاً فقط. بل هو حيوان خلاّق للأساطير أيضاً. الأساطير التي تتلبّس عيون الناس، وتلون الأشياء بألوانها. والإنسان، منذ صار كذلك، أي منذ صار إنساناً، وهو ينسج حول حياته شبكةً متكاملةً من الأساطير، باعتبار أنه لا يستطيع أن يكون، كما أُرجّح، كائناً اجتماعياً سويّاً من غير الأساطير. لكن، هذه قصة أخرى، لا محل لها هنا.
ويتصل بذلك، أيضاً، أن الحداثة هي زمن الأساطير الكثيفة التي تتلبس طرائقَ عيشنا، ونُسُقَ العلاقات الجمعية التي تحيط بنا، غير أن المفارقة تتمثل في أنّ زمن الحداثة خلق من الأساطير ما هو أشدَّ كثافةً من أساطير الأقدمين، في وقت يزعم فيه أن البشرية تحررت بفضله منها إلى الأبد.

ثاني الملاحظتين، وهي هدفي، من هذا النص الحالي، تتعلق بتبدد الأساطير، وبانهيار النظم المعرفية (وهي بالضرورة عقلانية) التي كانت تستمد وضوحها منها. وهي بخصوص مبدأ التقدم، وفي الأصح، بخصوص أسطورته.
وأفتتح ذلك بالإحالة إلى جدلية السيد والعبد الهيغلية المعروفة. فبحسب هذه الجدلية، يتقدم التاريخ طُرّاً، جراءَ تناقضٍ لا حلّ له، إلا عبر صراع دموي ومدمر بين السيّد والعبد. دموي، لأن العبد يريد التحرر من عبوديته، والسيد يريد الدفاع عن كونه سيداً، وعن البنية، أي الأوضاع العامة التي تجعل منه كذلك. ومدمرٌ لأنه ينتهي إلى تدمير البنية التي يقتتلان في داخلها. لكن مكر التاريخ يكمن، بالضبط، في غائيته التي لا مهرب منها. إذ إن كلاً من السيد والعبد أسير للبنية، أو النسق الذي هو فيه، إلّا أنه، في الصراع الضاري الذي ينخرط فيه، يسهم، بالفعل، في إنجاز أسّ التاريخ الذي يمكُرُ من غير توقف. فالسيد هنا، على نبل سلوكه الفروسي، يقف في الجانب المحافظ، الرجعي، والذي ستتخطاه حركة التاريخ المندفعة أبداً. في حين يقف العبد، على الرغم من وعيه كعبد، في صف التاريخ. لا يتحرر العبد، في نضاله، من سلاسل عبوديته فحسب، بل يحرر مع تحرره، وفي تحرره، البشريةَ كلَّها من الأوضاع التي أنتجته كعبد، ووضعته في مواجهة السيد.
ينبغي القول إن جدلية السيد والعبد كانت قاطرةً لتاريخ الحداثة في القرنين الأخيرين، لأن من معطفها خرجت كلّ الأساطير التي سادت، وعبأت جرّاءها الملايين من البشر. فالبروليتاري لدى ماركس، والمُستعمَر لدى حركات التحرر التي زاوجت بين الماركسية والهُوّية، يحرر في كفاحه من أجل تحرره البشريةَ المعذبة كلّها، ويرتقي بها إلى مصاف الأنسنة.
لكن مكر التاريخ يكمن بالضبط في تجربته. فقد تبدّدت أسطورة التقدم، من دون أن يتمكن المُضْطهَدُ (أو العبدُ) من أن يثبت أنه كان، دائماً، محرراً للبشرية المعذبة، أو يرتقي بها إلى مصاف الأنسنة. ثمة حالاتٌ حدث فيها نكوصٌ نحو همجيةٍ منفلتةٍ من عقالها، أنتجها العبد حين انتصر. يكفي النظر إلى طغاة الجنوب، وطغاتنا نحن العرب. وتكفي نظرة سريعة إلى العقلية المظلومية، حين تأنسُ في ذاتها قوة. أليس لدينا في ما يفعله الصهاينة اليهود بالفلسطينيين بذريعة المظلومية والاضطهاد أكبر برهان؟
ولا يستغربن أحد. فبخلاف ما يقال، تكرر الأجيالُ غالباً الحكايةَ إيّاها: يُذهلُ الناس، كما لاحظ ابن خلدون عن تغيراتٍ كبيرةٍ تحيط بهم، ويغفلون عن أن معارفهم صارت في حالة فوات وخارج الصلاحية. إنهم يكتشفون، ولكن، متأخرين، كما كتب في مقدمته، أن الأحوال تبدّلت "جملةً، فكأنما تبدل الخلقُ من أصْلهِ، وتحوّل العالمُ بأسره وكأنه خلقٌ جديد، ونشأةٌ مستأنفة، وعالم مُحدث"
 ***
نشهد اليوم اختتام عصر، وربما حضارة كاملة، بعقائدها وأساطيرها التي تفعل فيها. عصر كامل هو بالضبط ذلك العصر الذي كنا نؤمن أنه آيل إلى الامتلاء، بفعل مبدأ التقدم. وكنت كتبت، في الأسبوع الماضي، أن مبدأ العدل هو قاطرة التاريخ، لأنني أرجح أن الحقوق الإنسانية، وفي أسها مبدأ العدل، ستكون في أساس شرعيات نضالات المستقبل؛ وهي اليومَ في طريقها إلى أن تكون مُحرّكاً لكل تعبئة من أجل تغيير عالمٍ ليس لنا.

 

 

A15E2479-A86E-4FA5-9A8C-7C4CA1FB6626
محمد حافظ يعقوب

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في باريس. من مؤسسي الحركة العربية لحقوق الإنسان. يحمل دكتوراه الدولة في علم الاجتماع من جامعة باريس. نشر مقالات ودراسات بالعربية والفرنسية. من مؤلفاته بالعربية: العطب والدلالة. في الثقافة والانسداد الديمقراطي. بيان ضد الأبارتايد.