27 أكتوبر 2024
في أربعينية المعاهدة المصرية الإسرائيلية
تمرّ الذكرى الأربعون لتوقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في واشنطن في 26 مارس/ آذار 1979، بين الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، برعاية أميركية مثّلها حضور الرئيس جيمي كارتر. وجاءت المعاهدة إطارا ثانيا ضمن اتفاقية كامب ديفيد الموقعة في سبتمبر/ أيلول 1978، وذلك بعد 13 يوماً من المفاوضات الشاقّة بين الطرفيْن، ومثّلت زلزالاً مدويّاً في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، لا تزال توابعه قائمة. وبموجب المعاهدة، انسحبت إسرائيل على عدّة مراحل من سيناء التي كانت قد احتلّتها في 5 يونيو/ حزيران 1967، وكانت المرحلة الأخيرة في 25 أبريل/ نيسان 1982 (استعادت مصر طابا بالتحكيم الدولي في مارس/ آذار 1989)، وبموجبها أيضاً، حظيت إسرائيل باعتراف مصري رسمي، وتمّ وقف حالة الحرب بين الطرفيْن، وانتقالها من مرحلة المواجهة إلى مرحلة السلام البارد.
بعيداً عن النزعات الانفعالية الجانحة إلى التقديس، أو التدنيس، أو التخوين، وبعد مرور أربعة عقود، جرت فيها مياه كثيرة في الأنهار السياسية، محلياً وإقليمياً ودولياً، يجدر بنا النظر إلى المكاسب والخسائر الناتجة عن تلك المعاهدة التي لم تكن بالطبع شرّاً محضاً، فموجبها استعادت مصر سيناء (وإن كانت سيادتها منقوصةً في بعض المناطق)، كما أتاحت الفرصة لها للخروج من حالة الحرب التي استنزفتها اقتصادياً، وتوجيه أموال المجهود الحربي لأنشطة اقتصادية أخرى.
قبل النظر في خسائر الاتفاقية، يتعيّن الحديث عن الرؤية الاستراتيجية لإسرائيل تجاه مصر، فمنذ نشأتها، قامت الرؤية الإسرائيلية، المدعومة أميركياً، لمصر (بكلّ ثقلها الحضاري، والتاريخي، والجيواستراتيجي، والديمغرافي في العالم العربي) على أنّها مصدر الخطر،
والتهديد الأول لإسرائيل، وأنّه لا بقاء لإسرائيل في ظلّ قوّة مصر. وعليه، قام المشروع الإسرائيلي على إزاحة مصر تماماً من المنطقة، وهذه الإزاحة الأكثر حسماً وفاعلية (وفقاً لطارق البشري) تكون بتهديم مصر دولةً، ونظاماً، وشعباً، وخبراتٍ، وثرواتٍ، وإمكاناتٍ، أو على الأقلّ تقزيم وتفكيك قدرات مصر (السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والثقافية) وعوامل قوّتها، واستقلال إرادتها الوطنية، بحيث تصير في موقع التابعة، لا القائدة، وبما يحوّل مصر، في النهاية، إلى كيان يتبع السياسات الأميركية – الإسرائيلية في المنطقة، حتى لو تعارضت مع صالح مصر، وبما يحقّق لإسرائيل "وراثة" الفراغ الناجم عن تغييب مصر.
بطبيعة الأمر، اهتمام القوى الدولية الكبرى بشأن النظام السياسي في مصر، والتأثير في تكوينه، بشكل أو آخر، قديم، منذ الحملة الفرنسية، ولم يتوقّف. ولكن الأمر، بعد نشأة إسرائيل على البوّابة الشرقية لمصر، اتخذّ أبعاداً أخرى.
جعلت الاتفاقية العلاقات المصرية الإسرائيلية ثلاثية الأبعاد، فالعلاقة بين الطرفيْن جاءت بالحضور، والرعاية، والمتابعة الأميركية التي لم تكن يوماً محايدة، وإنّما ظلت باستمرار منحازة إلى إسرائيل انحيازاً جهيراً، فالالتزام الأميركي تجاه إسرائيل، بضمان تفوّقها العسكري على جميع دول المنطقة، جزء أساسي من الاستراتيجية الأميركية. أمّا الشقّ الاقتصادي، فقد كان العامل الأساسي لتطوّر الاقتصاد المصري، من 1974 إلى 2010، هو تبعية مصر الاقتصادية، والسياسية، للولايات المتحدة، فكانت المطالب الأميركية، طوال هذه الفترة، سياسية واقتصادية، وكانت الاقتصادية تتخّذ، في العادة، صورة توجيهات و"نصائح" من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. واستمرّت سياسة مصر الاقتصادية، طوال هذه الفترة، تتبع توجيهات هاتيْن المؤسستيْن الدوليتيْن، إلى جانب توجيهات الإدارة الأميركية، وكانت النتيجة دائماً لصالح الولايات المتحدة والاستثمارات الأميركية، ونادراً ما كانت في صالح مصر (وفقاً للراحل جلال أمين). أمّا المثال الأبرز فهو اتفاقية الكويز (2004)، والتي ربطت قدرة المنتجات المصرية على النفاذ إلى الأسواق الأميركية بدرجة التعاون "الصناعي" مع إسرائيل.
وأوجدت معاهدة السلام طبقة "طفيلية"، من أصحاب المصالح المُنتفعين من رجال الأعمال الذين عُرفوا في السبعينيات بأنهم "أثرياء المعونة الأميركية" ممن تلوّثت أيديهم وأموالهم بعار "التطبيع" لاحقاً. ومع الوقت، اتسع نطاق تلك الطبقة ذات النزعة "النيوليبرالية" المتطرّفة، حتى شرعت في لعب دور سياسي، ثم حملت راية مشروع توريث رئاسة مصر من حسني مبارك إلى نجله جمال مبارك.
وكان للاتفاقية تأثير مباشر على الدور المصري في المنطقة، حيث فرضت علاقة التحالف
الاستراتيجي الجديدة مع الولايات المتحدة، بصورة ضمنية، قيوداً على حركة الدبلوماسية المصرية في محيطها الإقليمي، وعلى المسرح الدولي، حيث حرصت مصر، منذ ذلك الحين، على عدم القيام بأي خطوة لا تلقى قبولاً أميركياً، ما ترتّب عليه فقدان زمام المبادرة، والدوران في فلك السياسة الأميركية. ومع مرور الوقت، أخذ الدور المصري في الانكماش والذبول، تاركاً خلفه فراغاً كبيراً، تصارعت عليه أطراف إقليمية، كانت إسرائيل في مقدّمتها، كونها المستفيد الأوّل من غياب الدور المصري الذي طالما عملت على محاصرته، وتقزيمه، ومحاولة الإجهاز عليه، فقد تمدّدت إسرائيل في تلك الفترة، ووصلت إلى المجال الحيوي لمصر في دول حوض النيل. ويمكن القول إن تلك الاتفاقية كانت أوّل مسمار في نعش الدور المصري في المنطقة.
وكان من المفترَض من الاتفاقية أن تجعل علاقة مصر بإسرائيل عادية، أو طبيعية، شأن علاقة مصر بأيّة دولة. ولكن، بعد مرور 40 عاماً، أثبت الواقع أن إسرائيل كانت دولة "فوق عادية"، حظيت بمعاملة مصرية خاصّة، سيّما في مجال التعاون الاقتصادي، بفضل إجادة إسرائيل سياسة الابتزاز المصحوب بضغوط أميركية على مصر.
على الرغم من هذا، لم تتغيّر النظرة الإسرائيلية العدائية طوال العقود الماضية تجاه مصر، فما زالت إسرائيل تراها مصدر التهديد الأوّل على أمنها. وعلى الرغم من معاهدة "السلام"، لم تكف إسرائيل مطلقاً عن محاولات اختراق الداخل المصري، وقد تحدّث عن هذا بصورة علنية صريحة الجنرال عاموس يادلين، الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، في أكتوبر/ تشرين الأول 2010، عن تطوّر العمل في مصر، حسب الخطط المرسومة منذ العام 1979، وعدم توّقف المحاولات الإسرائيلية من أجل توليد بيئة مُتصارِعَة، ومُتوتِرَة ومُنقَسِمَة من أجل تعميق حالة الوهن والاهتراء داخل بنية المجتمع، والدولة المصرية.
في كلّ الأحوال، تحرص إسرائيل، أيّما حرص، على المعاهدة، وعلى بقاء الأوضاع التي أقرّتها من دون أي تغيير، ففي محاضرة له، في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، في سبتمبر/ أيلول 2008، قال وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي الأسبق، آفي ديختر، إن "انسحاب مصر من اتفاقية السلام، وعودتها إلى خطّ المواجهة مع إسرائيل خطٌّ أحمرُ، لا يُمكن لأيّة حكومة إسرائيلية أن تسمح بتجاوزه، وستجد نفسها مُرغَمَة على مواجهة الموقف وبكلّ الوسائل".
يظلّ المُؤكَّد والمُتيقَّن منه، أنّ الاتفاقية أخفقت تماماً، طوال العقود الماضية، في تذويب الحاجز
النفسي الشعبي في مصر تجاه إسرائيل، فالعقل الجمعي للمصريين لم يتقبّل مطلقاً فكرة التطبيع، وما زالت الصورة الذهنية لإسرائيل مُستَقبَحَة إلى أبعد مدى، كما أن الشعور الشعبي تجاهها مزيجٌ من العداء والكراهية. ولا غرابة ولا عجب، فقد خاضت ضدّ مصر خمس حروب عسكرية في ربع قرن فقط، والسفير الإسرائيلي لا يمكنه مغادرة مقرّه، إلا بإجراءاتٍ أمنيةٍ مشدّدة. وحتّى في النُخَب التي تُعرَف بالمُثقّفين، ظلّت المحاولات الداعية إلى التطبيع مجرّد أصوات فردية نشاز، لا تمثّل تياراً، كما ظلّت معزولة منبوذة مُلاحَقَة بالعار بل والاحتقار، لا تجد لها نصيراً أو ظهيراً، فضلاً عن أنّها في المحصّلة النهائية مُنيَت بفشلٍ ذريعٍ.
بعيداً عن النزعات الانفعالية الجانحة إلى التقديس، أو التدنيس، أو التخوين، وبعد مرور أربعة عقود، جرت فيها مياه كثيرة في الأنهار السياسية، محلياً وإقليمياً ودولياً، يجدر بنا النظر إلى المكاسب والخسائر الناتجة عن تلك المعاهدة التي لم تكن بالطبع شرّاً محضاً، فموجبها استعادت مصر سيناء (وإن كانت سيادتها منقوصةً في بعض المناطق)، كما أتاحت الفرصة لها للخروج من حالة الحرب التي استنزفتها اقتصادياً، وتوجيه أموال المجهود الحربي لأنشطة اقتصادية أخرى.
قبل النظر في خسائر الاتفاقية، يتعيّن الحديث عن الرؤية الاستراتيجية لإسرائيل تجاه مصر، فمنذ نشأتها، قامت الرؤية الإسرائيلية، المدعومة أميركياً، لمصر (بكلّ ثقلها الحضاري، والتاريخي، والجيواستراتيجي، والديمغرافي في العالم العربي) على أنّها مصدر الخطر،
بطبيعة الأمر، اهتمام القوى الدولية الكبرى بشأن النظام السياسي في مصر، والتأثير في تكوينه، بشكل أو آخر، قديم، منذ الحملة الفرنسية، ولم يتوقّف. ولكن الأمر، بعد نشأة إسرائيل على البوّابة الشرقية لمصر، اتخذّ أبعاداً أخرى.
جعلت الاتفاقية العلاقات المصرية الإسرائيلية ثلاثية الأبعاد، فالعلاقة بين الطرفيْن جاءت بالحضور، والرعاية، والمتابعة الأميركية التي لم تكن يوماً محايدة، وإنّما ظلت باستمرار منحازة إلى إسرائيل انحيازاً جهيراً، فالالتزام الأميركي تجاه إسرائيل، بضمان تفوّقها العسكري على جميع دول المنطقة، جزء أساسي من الاستراتيجية الأميركية. أمّا الشقّ الاقتصادي، فقد كان العامل الأساسي لتطوّر الاقتصاد المصري، من 1974 إلى 2010، هو تبعية مصر الاقتصادية، والسياسية، للولايات المتحدة، فكانت المطالب الأميركية، طوال هذه الفترة، سياسية واقتصادية، وكانت الاقتصادية تتخّذ، في العادة، صورة توجيهات و"نصائح" من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. واستمرّت سياسة مصر الاقتصادية، طوال هذه الفترة، تتبع توجيهات هاتيْن المؤسستيْن الدوليتيْن، إلى جانب توجيهات الإدارة الأميركية، وكانت النتيجة دائماً لصالح الولايات المتحدة والاستثمارات الأميركية، ونادراً ما كانت في صالح مصر (وفقاً للراحل جلال أمين). أمّا المثال الأبرز فهو اتفاقية الكويز (2004)، والتي ربطت قدرة المنتجات المصرية على النفاذ إلى الأسواق الأميركية بدرجة التعاون "الصناعي" مع إسرائيل.
وأوجدت معاهدة السلام طبقة "طفيلية"، من أصحاب المصالح المُنتفعين من رجال الأعمال الذين عُرفوا في السبعينيات بأنهم "أثرياء المعونة الأميركية" ممن تلوّثت أيديهم وأموالهم بعار "التطبيع" لاحقاً. ومع الوقت، اتسع نطاق تلك الطبقة ذات النزعة "النيوليبرالية" المتطرّفة، حتى شرعت في لعب دور سياسي، ثم حملت راية مشروع توريث رئاسة مصر من حسني مبارك إلى نجله جمال مبارك.
وكان للاتفاقية تأثير مباشر على الدور المصري في المنطقة، حيث فرضت علاقة التحالف
وكان من المفترَض من الاتفاقية أن تجعل علاقة مصر بإسرائيل عادية، أو طبيعية، شأن علاقة مصر بأيّة دولة. ولكن، بعد مرور 40 عاماً، أثبت الواقع أن إسرائيل كانت دولة "فوق عادية"، حظيت بمعاملة مصرية خاصّة، سيّما في مجال التعاون الاقتصادي، بفضل إجادة إسرائيل سياسة الابتزاز المصحوب بضغوط أميركية على مصر.
على الرغم من هذا، لم تتغيّر النظرة الإسرائيلية العدائية طوال العقود الماضية تجاه مصر، فما زالت إسرائيل تراها مصدر التهديد الأوّل على أمنها. وعلى الرغم من معاهدة "السلام"، لم تكف إسرائيل مطلقاً عن محاولات اختراق الداخل المصري، وقد تحدّث عن هذا بصورة علنية صريحة الجنرال عاموس يادلين، الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، في أكتوبر/ تشرين الأول 2010، عن تطوّر العمل في مصر، حسب الخطط المرسومة منذ العام 1979، وعدم توّقف المحاولات الإسرائيلية من أجل توليد بيئة مُتصارِعَة، ومُتوتِرَة ومُنقَسِمَة من أجل تعميق حالة الوهن والاهتراء داخل بنية المجتمع، والدولة المصرية.
في كلّ الأحوال، تحرص إسرائيل، أيّما حرص، على المعاهدة، وعلى بقاء الأوضاع التي أقرّتها من دون أي تغيير، ففي محاضرة له، في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، في سبتمبر/ أيلول 2008، قال وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي الأسبق، آفي ديختر، إن "انسحاب مصر من اتفاقية السلام، وعودتها إلى خطّ المواجهة مع إسرائيل خطٌّ أحمرُ، لا يُمكن لأيّة حكومة إسرائيلية أن تسمح بتجاوزه، وستجد نفسها مُرغَمَة على مواجهة الموقف وبكلّ الوسائل".
يظلّ المُؤكَّد والمُتيقَّن منه، أنّ الاتفاقية أخفقت تماماً، طوال العقود الماضية، في تذويب الحاجز