فيتوريو أريغوني.. شاهد غزة وشهيدها

20 ابريل 2014
+ الخط -
اليوم، تكون قد مرّت ثلاث سنوات على مقتل الناشط الحقوقي والصحافي الإيطالي فيتوريو أريغوني (1975-2011) في قطاع غزة. ورغم نجاته يومياً من الموت برصاصة أو صاروخ إسرائيليين، إلا أنه وقع في قبضة "جماعة سلفية متشددة" استخدمته رهينةً لتبتزّ حركةَ حماس وتجبرها على الإفراج عن مُعتقلين ينتمون إليها.

وقبل انتهاء المُهلة، قامت هذه الجماعة بقتله. في حين برزت إشارات كثيرة وَصَمَتْ "إسرائيل" بأنها من يقف فعلاً وراء الجريمة؛ في محاولة لإبعاد المتضامنين الأمميين عن فلسطين.

"فيتوريو" الذي اعتبره الشعب الفلسطيني شهيده ترك أيضاً كتابه الصغير"غزّة، حافظوا على إنسانيتكم"، الذي صدر بالعربية عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"بترجمة مالك ونوس)، والذي يشكّل شهادة مؤثّقة على مسلسل الموت والحرية في غزة.

يستهل "فيتوريو" كتابه بمقدّمةٍ "تحذيرية" ينبّه فيها قارئه من الرحلة المليئة بأصوات القذائف والتفجيرات والأشلاء، فيصطحبه في جولةٍ تتوغّل في ضواحي قطاع غزّة الذي تعرّض لاعتداءاتٍ من جيش الاحتلال الإسرائيلي استمرت منذ 27 كانون الأول/ ديسمبر-2008 حتى 18 كانون الثاني/ يناير-2009، وأسفرت عن استشهاد 1417 مواطناً وسقوط حوالي 5450 جريحاً؛ مُشبّهاً ما حصل في غزّة بجحيم دانتي في "الكوميديا الإلهية".

يلتقطُ أريغوني في كتابه، الذي ترجمته من الإيطالية إلى الإنكليزية دانييلا فيليبين، المشاهدَ المرعبة ويصفها بدقّة عالية لتكون مرئية وجلية للقارئ. وبذلك كان شاهداً قيّماً على ما حصل في القطاع. إذ رفض الاختباء في تلك المكاتب الحقوقية المُحصّنة التي يكتفي قاطنوها بتحويل الشهداء والجرحى إلى أرقام، وتواجد على الأرض مُعرّضاً نفسه لما يتعرّض له أبناء غزة.

هكذا استطاع مثلاً أن يصوّر في أحد نصوصه تلك اللقطة الرهيبة التي نرى فيها امرأة فلسطينية تتعرّف إلى يد زوجها المبتورة والمُلقاة في ثلاجة الموتى، من خلال محبس الزواج في إصبعه.

من يُقلّب أوراق كتابه "المُشبعة بالفوسفور الأبيض" و"الحادة كشظايا قنبلة"، سيظنّ لوهلة أنّها تتّسمُ بالرتابة لكثرة التكرار، لكن مهلاً، كل يوم دموي هو نسخة عن الذي سبقه أو تلاه! تشابهٌ رهيب بين الأحداث والمشاهد والوجوه يعكس حجم المأساة. ولعل الفرق الوحيد بين يوم وآخر هو الارتفاع الثابت لعدد الشهداء.

يبحث الكتاب في عُمق هذه الحرب العدوانية ووحشيتها التي طاولت جميع سكان غزة. ففي كل صفحة من هذه اليوميات نشاهد مبنى وقد هُدِم على رؤوس قاطنيه، أو مسجداً اقتُحِمَ وقُتل مُصلّوه، أو مشفى يطوف بدماء الضحايا التي لم تشفِ غليل الجيش الاحتلال.

ويستعين أريغوني أيضاً بشهادات أهالي غزة وأحاديثهم المُفجعة عمّا تبقّى من بيوتهم التي تحوّلت إلى ركام. نقرأ في يومياته، نصاً بعنوان "الحب تحت القصف" يقدّم فيه مُفارقة بين حياتيْن في بلدٍ واحد، حياة المستعمِر وحياة المستعمَر. فعلى لسان أحد الشهود، نقرأ: "اليهود في تل أبيب يخرجون أزواجاً للمرح في النوادي وعلى شواطئ البحر، وفلسطينيو غزة يسهرون على ضوء القذائف المتقطّع".

ويورد أريغوني شهادة لأحد سكّان القِطاع يدعى رجا شميّل، لعلّها تلخّص ما حصل هُناك: "خذ شريطاً من الأرض طوله 40 كيلومتراً وعرضه لا يتجاوز 5 كيلو مترات، ثم احشر فيه 1.4 مليون نسمة، وأطلِقْ عليه تسمية "أرض الإرهابيين". بعد ذلك، أعلِن الحرب عليه وقم بغزوه مستعيناً بـ 232 دبابة و687 عربة مدرعة و43 مطاراً حربيّاً (...)، ثم سمِّ كل هذا الحشد: دفاع إسرائيل عن نفسِها!".

قدَّم للكتاب المؤرّخ إيلان بابيه، مُفتتحاً نصّه الذي حمل عنوان "ميادين القتل في غزة (2009)" بمعلومات عن مدينة تجريبية بدأ الجيش الإسرائيلي ببنائها في العام 2004 في صحراء النقب، لتكون تجسيداً حيّاً لمدينة حقيقية. وبعد عامين "أصبحت هذه المدينة الشبح نموذجاً لمدينة غزّة"، تدرّب الجيش على القتال فيها استعداداً للسيناريو الحقيقي الذي قدّمه في حربه على القطاع.

ورُغم البربرية التي يتّسم بها الاحتلال، أصرّ فيتورو أريغوني الذي أدلى بشهادتِه على المجزرة وكل ما هو لا أخلاقي وعنصري، على إدراج عبارة: "حافظوا على إنسانيتكم!" عند نهاية كل نص. وكأنه يصر على تذكير قارئه بأننا ننتمي "إلى جماعة فريدة من الكائنات الحية، ألا وهي العائلة الإنسانية".

المساهمون