"فورمان مقابل فورمان"، وثائقيّ جديد (2019) للثنائي التشيكي إيلينا تْرَسْتيكوفا (1949) وياكوب هايْنا (1976). عرضه الدولي الأول حاصلٌ في برنامج الأفلام الوثائقية، في الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي. إنتاجه مشترك بين جمهورية تشيكيا وفرنسا. عرضٌ دولي ثانٍ له يشهده برنامج "أحداث خاصة"، في الدورة الـ54 (28 يونيو/ حزيران ـ 6 يوليو/ تموز 2019) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي".
التوثيق يتّخذ شكلاً يزداد حضورًا في الإنتاج السينمائيّ. الأرشيف المُصوَّر مفتوحٌ أمام راغبين في الاستفادة منه. أشرطة مُسجَّلة بالأسود والأبيض، بعضها متداول ومعروف، تتحوّل مع تْرَسْتيكوفا وهايْنا إلى فيلم سينمائي متكامل. الدور الأبرز في صناعة الفيلم كامنٌ في المونتاج (هايْنا)، استنادًا إلى سيناريو متين البنية الدرامية والسردية (تْرَسْتيكوفا). اللعبة الفنية واضحة: الحصول على كمّ هائل من الساعات المُصوّرة، ووضع سياق سردي معنيّ بحالة أو موقف أو انفعال أو حكاية أو مسار تاريخي، وإتاحة المجال كلّه أمام اللقطات المختارة لتروي المطلوب، وتقول فصولاً منه، وتعكس حيويته ونبضه، أو شيئًا منهما على الأقلّ.
هذا طاغٍ في صناعة السينما الوثائقية في العالم. "فورمان مقابل فورمان" يندرج في الإطار نفسه لتلك اللعبة الجميلة، لكن المليئة بمنزلقات ينجو الثنائي إيلينا تْرَسْتيكوفا وياكوب هايْنا من الوقوع في أفخاخها. صحيح أنّ الجوهر الدرامي كامنٌ في السيناريو، المرافق لمراحل مختلفة من سيرة السينمائي التشيكي الأميركي ميلوش فورمان (1932 ـ 2018)، الحاصل على جائزة "أوسكار" أفضل إخراج مرّتين اثنتين: الأولى عام 1976 عن "طيران فوق عشّ الواقواق" (1975)، والثانية عام 1985 عن "أماديوس" (1984). مراحل تبدأ من بلده تشيكوسلوفاكيا قبل الانشقاق، وتتوقّف عند اختباراته وأمزجته وآرائه ومفاصل حياته، وفي هذه الأخيرة تتداخل السياسة بالفن، والرحلات بالمنافي، والصناعة بالفن. يقول فورمان تعليقاتٍ يمزج بعضها المزاح بالسخرية، والانتقاد بقسوة المراجعة. كما أنّه يظهر في أمكنة كثيرة، ومناسبات كثيرة، وحالات كثيرة.
للجانب السياسي حضورٌ في سيرته. مولود هو في بلدٍ خاضع لنظام شيوعي صارم، وتابع لسطوة الاتحاد السوفييتي السابق. يعمل ويُنتج ويُقدِّم أفلامًا مختلفة، يتيح بعضها له فرصة السفر، ومنها رحلة إلى "كانّ" عام 1968، رفقة فيلمه "إنها تحترق، دميتي" (أو بحسب العنوان الفرنسي: "إنها النار أيها الإطفائيون"). غير أنّ ذاك العام مليء بخضّتين كبيرتين: الأولى في بلده تشيكوسلوفاكيا، الذي يشهد ما يُعرف لاحقًا بـ"ربيع براغ" (5 يناير/ كانون الثاني ـ 21 أغسطس/ آب)؛ والثانية في "كانّ" نفسها، إذْ تُقام الدورة الـ21 للمهرجان الدولي هذا بدءًا من 10 مايو/ أيار، لكن أحداث "ثورة الطلاب" دافع إلى تضامن سينمائيين فرنسيين معها، يجدون في المهرجان منبرًا لخطاب متوافق وحراك باريس، فتتعطّل الدورة تلك بعد 9 أيام فقط على بدايتها، بدلاً من أنّ تستمر إلى 24/ 5 كما هو متّفق عليه. ميلوش فورمان يلتزم قرار السينمائيين الفرنسيين، وينسحب من المهرجان.
هذا كلّه يُبقيه في فرنسا، فيتولى أصدقاء سينمائيون مهمة مرافقة عائلته إليه، قبل المغادرة إلى الولايات المتحدة الأميركية. صداقة تجمعه بالكاتب فاكلاف هافل، الذي سيُصبح رئيسًا للبلد قبل تقسيمه وبعده، أي في الفترة الممتدة بين عامي 1989 و2003.
تتوزّع السيرة الوثائقية على اشتغالاته وجوائزه ومواقفه، فيظهر لاذعًا في أقواله، وساخرًا في انتقاداته، وناقدًا أحوالاً ومفارقات ووقائع. فالوثائقي هذا يتحوّل إلى شهادة بصرية عن سينمائيّ يحمل في ذاته مسارات تاريخ وسينما وثقافة وحياة، واضعًا بعض حمله هذا في أفلامٍ حاضرة في ذاكرة جماعية وهواجس فردية.