فنزويلا وأزمة اليسار في العالم

25 مارس 2019

جدارية لتشافيز وتجمع لأنصار مادورو في كاراكاس (23/3/2019/فرانس برس)

+ الخط -
تقف حكومة الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، اليوم، أمام سؤال يطرح على اليسار العالمي: هل عليها أن تتمسك بالسلطة، على الرغم من الفشل الاقتصادي والفساد والفقر، بحجة أن كل هذا بسبب الحصار والتحريض والدعم الأميركي للثورة المضادة، منذ صعود الرئيس هوغو تشافيز إلى السلطة في انتخابات شرعية سنة 1992؟ وهل على مادورو رفض الإملاءات الأميركية والأوروبية بإجراء انتخابات جديدة، بدلاً عن انتخاباتٍ لم يمض عليها سوى بضعة أسابيع، فاز بها مادورو وحزبه؟ وهل على السلطة اليسارية مواجهة المعارضة بمزيدٍ من العنف والقمع وإدخال البلاد في الفوضى؟ أم عليهم التسليم بالفشل، والقبول بإجراء انتخاباتٍ ثانيةٍ في مناخٍ من التحريض والتدخل الخارجي، ما يعني خسارة الانتخابات والسلطة، من أجل تجنب مزيدٍ من الأزمات الاقتصادية والسياسية ومخاطر الفوضى، بما يُحدثه هذا من أثر سلبيٍّ على سمعة اليسار ورصيده الشعبي؟ 
يتم طرح حالة فنزويلا الراهنة هنا لمناقشة أزمة اليسار في العالم، منذ قيام ثورة أكتوبر الروسية سنة 1917، وهي أزمة تكمن في فشل التجارب الاشتراكية التي قامت على الجبهتين، السياسية والاقتصادية.

الفشل السياسي
فازت أحزاب يسارية/ اشتراكية في بلدان قليلة في انتخابات ديمقراطية، لكن اليسار الذي يفوز في بلدان ديمقراطية ما يلبث أن يخسر السلطة في انتخاباتٍ تالية، وهذه طبيعة الحياة الديمقراطية. بينما أنظمة يسارية/ اشتراكية قليلة وصلت إلى السلطة، عبر ثوراتٍ أشهرها الثورتان الروسية والصينية. ووصل معظمها بانقلابات عسكرية، أقامت أنظمة شمولية تفتقد للحريات العامة وحقوق الإنسان. إذ جعلت التمسك بالسلطة غايتها، وأخضعت له بقية العوامل. ونتيجة ذلك، تحولت الثورات والانقلابات من مشروع مجتمعي إلى مشروع فردي لشخصٍ أو حفنةٍ من الأشخاص القادة، وبرزت ظاهرة "السلطة مدى الحياة". وهذه الأنظمة تكون معبأة بالخوف من المجتمع، ومسكونة بهاجس المؤامرة، ويدفعها هذا إلى تضخيم أجهزة الأمن 
والجيش والجهاز الحزبي، وتنظيمات جماهيرية فارغة من المحتوى، تتحول إلى أجهزة لتثبيت السلطة بيد النخبة الحاكمة. وتكون النتيجة دائمًا قمع الحريات العامة في التعبير والتنظيم، وإقامة نظام بوليسي. وكل هذا تحت حجة الدفاع عن الثورة، فتتحول الثورة إلى كابوس سياسي، يقسم الشعب إلى قسمين، قسم أعظم غاضب بصمت وغير راض عن الفشل الاقتصادي وقمع الحريات، ولا يجرؤ على التعبير عن رأيه، وقسم صغير معبأ أيديولوجيا أو منتفع من مفاصل السلطة، يؤيدها بعماء مطلق.

الفشل الاقتصادي
فشلت التجارب الاشتراكية في تحقيق تنمية اقتصادية قادرة على منافسة الأنظمة الرأسمالية، ما أضعف قاعدتها المادية في مواجهة تحدّيات النظام الرأسمالي على المستوى العالمي، كما أضعف قدرتها على تقديم حياةٍ أفضل للشعوب التي حكمتها، فلدى مراجعة تجارب اليسار في العالم، منذ قيام النموذج السوفييتي بعد ثورة أكتوبر في 1917، يظهر جليًا أن الاقتصاد وقع ضحية السلطة الاشتراكية، فالنموذج الاقتصادي الذي أقامته كان نموذجًا ضعيف الإنتاجية. ما يلبث أن يفقد الناس حماستهم له، ما يُحدث معارضة نشطة تحرّض على مزيد من القمع، مقدمًا مثاًلًا غير جاذب للأنظمة الاشتراكية، إلى أن أصبحت كلمة الاشتراكية تحمل مدلولاً أقرب إلى الفقر في أذهان الناس، وفقدت بريقها الذي اكتسبته في خمسينيات القرن العشرين وستينياته. ويعود الفشل الاقتصادي إلى:
أ‌- عوامل موضوعية، كون الدول الرأسمالية المتقدمة تسيطر تاريخيًا على ثروات العالم، ما يعطيها قدرة تنموية أكبر، ويمكّنها من فرض حصار اقتصادي على أي دولةٍ تتخذ نهجًأ اشتراكيًأ، مسببةً له مصاعب جمة.
ب‌- عوامل ذاتية داخلية، لها علاقة بالنظام الاقتصادي غير المنتج الذي تقيمه السلطة الاشتراكية، والذي يتسم بعاملين سلبيين:
سيطرة الدولة على مقدرات الاقتصاد، وإيجاد إدارة مركزية ضخمة، تفتقر للمرونة، وتقع تحت نظام بيروقراطي قليل الذكاء، وقليل الإبداع، يقف على رأسه أشخاصٌ بلا كفاءة غالبًا، لأن النظام السياسي السائد يقدم الولاء على الكفاءة. ويجعل هذا النظام المركزي نظم العمل 
والقرارات المركزية السائدة الموحدة جامدة بيروقراطية، لا يمكنها أن تجاري تنوع الواقع، ولا تمنح المرونة الضرورية لكفاءة الإنتاج، ولا تتيح فرصةً للأفكار المبدعة، ما يؤدي إلى تآكل القدرة الاقتصادية على المدى الطويل. وعلى الرغم من أن السيطرة على الفائض تعطي قدرة للدولة على المدى القريب، فتوسع التعليم والصحة وشبكة الطرق وتتيحها مجانية للشعب الذي كان محرومًا منها إلا بتكاليف عالية، وتوسع شبكة الكهرباء، وتحسّن سكن الفئات الضعيفة، وتوسع فرص العمل في المؤسسات الحكومية الكثيرة التي تتوسّع، غير أنها، على المدى الطويل، تفقد هذه القدرة بسبب تراجع القدرة الإنتاجية للناس والاقتصاد، فتصبح نفقات موازناتها المركزية أكبر من إيراداتها، فتقع في عجزٍ متزايد، فتلجأ للتضخم الذي ينعكس خرابًا على الفئات الشعبية.
العامل الثاني، إقامة أجهزة حكومية عديدة ضخمة بيروقراطية، تمول من الخزينة العامة، ما يلتهم كثيرا من الفائض الاقتصادي، مثل تضخيم الجهازين، الأمني والحزبي، والجيش، واللجوء إلى التوظيف الاجتماعي الفائض من أجل إيجاد ولاءات للنظام. وهذا ينتج إدارة ضعيفة، تهدر الموارد، وتفوت الفرص وتقتل الإبداع.
في تجارب الأنظمة اليسارية، اجتمع الفشل الاقتصادي مع القمع السياسي، ليكمل إطباق الخناق على المجتمع، فعندما يقترن فقدان الحريات وفقدان الكرامة مع تدهور الخدمات وزيادة البطالة والفقر، يصبح النظام أكثر عزلةً عن الناس، وأكثر خوفًا، فيلجأ أكثر إلى القوة العارية، ما يزيد القطيعة مع الشعب، وتصبح العلاقة علاقة حاكم مستبد وطاعة من مجتمعٍ مغلوبٍ على أمره، وحينها لا يبقى عدالة، ولا يبقى إنتاج، ولا يبقى حريات، ولا تبقى كرامة، وتصبح مهمة المتربصين بهذه السلطة أسهل، إذ تستطيع أن تدفع حشودا أكبر نحو الاحتجاج، والذي قد ينتهي بحروبٍ أهلية في البلدان المتخلفة.

البعد الإيديولوجي
تقف عقدةٌ نظريةٌ خلف هذا النمط الشمولي المركزي القاتل من التنظيم الاقتصادي، ولدت مع ولادة النظام السوفييتي، في تنظير مدفوع بسياسة شعبوية، تقوم على تقديم عدالة توزيع الدخل على تنمية القدرة الإنتاجية للاقتصاد، ويصبح شعار العدالة والقضاء على الفقر غاية النظام الاشتراكي/ اليساري، وليس تطوير قوى الإنتاج. وعلى الرغم من أن هذه المقولة النظرية تناقض نظرية الاشتراكية العلمية بأن الثورة الاشتراكية تأتي، أولا، كي تنمّي قوى الإنتاج، 
بحيث تستطيع تلبية الاحتياجات المتنامية للمجتمع، بعد أن يصبح النظام الرأسمالي ونظام الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج عقبة أمام تطورها. والمحاججة النظرية للاشتراكية هي أن الإنتاج الرأسمالي يأخذ طابعا جماعيا واجتماعيا واسعا متشابكا، بينما تبقى ملكية وسائل الإنتاج ملكية خاصة، ما يفقد المنتجين مصلحتهم في تطوير الإنتاج وتنميته، وأن هدف الاشتراكية هو قيام نظام يقوم على الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج، كي يتطابق الطابع الاجتماعي للإنتاج مع الطابع الاجتماعي للملكية، ولم يقل ملكية الدولة، بينما أحلّت التجارب اليسارية ملكية الدولة محل الملكية الاجتماعية، وقد اعتبرها منظّرون ماركسيون "رأسمالية دولة"، وهذا صحيح. وبالتالي، استمر الاغتراب الرأسمالي للعامل المشتغل في النظام الاشتراكي.
تقدّم الصين نموذجًا يشذ عن القاعدة أعلاه، فالصين حققت وتحقق تقدمًا مذهلًا، ولكنها، في الواقع، لم تعد نظامًا اشتراكيًا، بل اتجهت إلى فتح الباب تدريجيًا للقطاع الخاص، إلى أن بنت نموذجًا فريدًا، يقوم على نظام اقتصاد سوق رأسمالي مكتمل الأوصاف، مع نظام سياسي شمولي "شيوعي". واعتمدت على شراكة القطاعين، الخاص والعام، بقيادة الدولة، وقد ساعد الصين حجمها الكبير، أي ضحّت بالعدالة الاجتماعية على مذبح النمو الاقتصادي.

فنزويلا اليوم
في حالة فنزويلا، شهد تأييد سلطة تشافيز تراجعًا باستمرار مع فشله الاقتصادي، على الرغم من ثروة فنزويلا النفطية الهائلة، وقد أدى توسّع عجز موارد الخزينة العامة عن تغطية الإنفاق الحكومي إلى تضخم هائل، أدى إلى تدهور مستوى معيشة معظم الفنزويليين، إضافة إلى الفساد والجريمة. وهذا التدهور هو ما أدى إلى تراجع شعبية تشافيز ونظامه، في بلدٍ ما زال يتمسّك بالديمقراطية والحريات العامة، ما يتيح للناس التعبير عن أفكارهم، ويحول غضبهم إلى تظاهراتٍ في الساحات العامة، وإلى قوة في صناديق الاقتراع، يمكن أن تؤدي إلى تغيير النظام السياسي القائم. ولذلك تعمل الولايات المتحدة على خنق النظام اقتصاديًا، كي تسقطه، ولكن هذا الطريق لم يوصل الولايات المتحدة إلى مبتغاها، على الرغم من مرور عقدين على صعود تشافيز، فلدى النظام أنصاره، سواء السياسيون من المؤمنين بالعداء للرأسمالية والأمبريالية
 والمستعدون للتضحية من أجل بقاء نظام معاد لأميركا، كما لديه تأييد فئاتٍ شعبيةٍ تستفيد من إجراءاته التي تضمن تأمين ضروريات الحياة للفئات الواسعة من السكان. ولكن هذه السياسية تجعل الحياة في فنزويلا بالنسبة للجزء الأكبر من سكانها أقرب إلى حياة معسكرٍ، يتم تأمين ضروريات الحياة من أجل البقاء في بلدٍ يمكنه أن يكون على غنىً ورفاه عظيمين.
حالة فنزويلا اليوم مشخصة، طرفاها نظام يساري، ولكنه جاء بانتخابات شرعية إلى الحكم واستمر فيه، ودولة أمبريالية كبرى، اعتادت أن تتصرف بدول أميركا الجنوبية من دون أن يستطيع أحد أن يسألها لماذا. ولكن هذا النظام اليساري الشرعي فشل اقتصاديًأ، وتسبب بالفقر لشعبه، على الرغم من توفر ثروة هائلة، وتسعى قوى أمبريالية إلى إزاحته بالقوة الاقتصادية أو العسكرية، ما يربك موقف القوى اليسارية في العالم بين دعم السلطة الشرعية اليسارية التي تفقر الشعب ودعوتها إلى المقاومة، وبين انقلاب على سلطة شرعية تحرّضه وتدعمه القوى الأمبريالية في العالم، ويكون هو المخرج الوحيد المتاح من المأزق. وسيكون هذا نصرا للقوى الأمبريالية وخسارة لقوى اليسار، ويبدو أنه موسم خسارة قوى اليسار، وصعود اليمين في أميركا اللاتينية وفي أوروبا.
ثمة بديلان ينتصبان أمام السلطة اليسارية في فنزويلا اليوم: القبول بالتنازل، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، وهو يعلم أنه سيخسر الانتخابات والسلطة، في مناخات الغضب الشعبي بسبب الفشل الاقتصادي، وبسبب الدعم الأميركي الخارجي، إضافة إلى المناخ العام اليوم في أميركا اللاتينية الذي تحول نحو اليمين في السنوات الأخيرة، بعد موجة صعود يساري قبلها، ولكنه يُبقي الباب مفتوحًا لعودة اليسار في المستقبل، مراهنًا على المدى الطويل على عجز قوى اليمين عن تلبية احتياجات الناس، وحل المشكلات الاقتصادية. الخيار الثاني، التمسّك بالسلطة أيا كان الثمن، ما قد يدفع البلاد نحو حربٍ أهلية، ستحرِّض عليها الولايات المتحدة، كي يعطيها مبرر التدخل العسكري، ما يعني القتل والدمار وانتقام المنتصر، وهذا ما سيجعل اليسار مسؤولاً ويقدّم تجربة سلبية، تؤثر ربما عقودا على فرص عودته إلى السلطة في مرات.

استنتاج
تبرز، من التجارب الاشتراكية في العالم، حقيقة أن للتنمية الأولوية على العدالة، وليس العكس، ويجب أن تخضع قضايا العدالة لمصالح التنمية. وعلى الرغم من أن الفكر الليبرالي يضعهما في تعارضٍ حتمي، بل ويرى أنه صراع صفري، بمعنى إما عدالة أو تنمية، فإن تجارب أخرى تاريخية تظهر أن الجمع بينهما ممكن، بمعنى إيجاد نظام سياسي واقتصادي، يجمع بين الحريات العامة وحقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية في توزيع الدخل والثروة، وقد قدمت أوروبا، وخصوصا خلال العقود الثلاثة التي تلت الحرب العالمية الثانية تجارب حققت هذه المعادلة إلى حد نسبي، قياسًا بدعوات الليبرالية المتوحشة، على الرغم من أنها تبقى أقل من طموح الناس.
تنتصب أمام اليسار اليوم مهمة تطوير نظرية في السياسة والاقتصاد، مستفيدة من التجارب التي قامت، سواء تجارب الأنظمة الاشتراكية أو تجارب الديمقراطيات الاجتماعية في أوروبا الغربية أو غيرها، وأن تبدع جديدًا، من أجل بلورة نظرية جديدة، ونموذج اقتصادي اجتماعي سياسي جديد، يجمع بين الحريات العامة والحريات الاقتصادية وتوفير متطلبات التنمية وعدالة متنامية في توزيع الدخل والثروة.