شبه الاستقرار الذي تعيشه أميركا الجنوبية في السنوات الأخيرة، على الرغم من الأزمات الاقتصادية العاصفة ببعض بلدانها، لا ينعكس على فنزويلا، التي تبدو مشاكلها في حقبة ما بعد رئيسها الراحل هوغو تشافيز، أصعب مما كانت عليه في أيامه. لم تكن الأشهر الأخيرة في كاراكاس سهلة على الفنزويليين، الذين يمرّون بأصعب فتراتهم الاقتصادية، خصوصاً مع تصاعد الجدال بين الرئيس نيكولاس مادورو والمعارضة، على خلفية سعي الأخيرة إلى دفع المجلس الوطني الانتخابي للسماح بفتح أبواب التواقيع على استفتاء حول بقاء مادورو أو إقالته. لكن لم تنجح المعارضة في محاولاتها مع المجلس، مع تجميد الرئيس عملية الاستفتاء ضده. دفع ذلك المعارضة إلى العمل عن طريق البرلمان، الذي تسيطر عليه، فصادق الأخير في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، على إطلاق عملية عزل مادورو، مطالباً باستدعائه للمثول أمامه، أمس الثلاثاء. بالطبع، لم يقبل مادورو دعوة البرلمان، من دون أن يردّ شخصياً، بل ترك الأمر للجيش الفنزويلي، الذي أعلن على لسان وزير الدفاع، فلاديمير بادرينو لوبيس، عن دعمه للرئيس مادورو، نافياً وجود أي انتهاك لدستور البلاد من قبله.
حتى أن رئيس الحزب الاشتراكي الفنزويلي دويسدادو كابيو، الذي يعد الرجل الثاني في معسكر مادورو، أعلن "تحدثت مع الرئيس: أي شركة تتوقف (احتجاجاً) سيسيطر عليها العمال والقوات المسلحة". مع العلم أنه في القانون، فإن على المعارضة جمع أربعة ملايين توقيع خلال ثلاثة أيام، للنجاح في إجراء استفتاء إقالة مادورو، مرفقاً بعدم تعطيل المجلس الوطني الانتخابي (الذي يسيطر عليه مادورو) خطوات الاستفتاء، لناحية عدم إصداره قراره بعد نهاية شهر أكتوبر الماضي. وذلك كي يتاح تنظيم الاستفتاء خلال ثلاثة أشهر، وتحديداً قبل 10 يناير/ كانون الثاني 2017. وتُعدّ مسألة المواعيد أساسية، فإذا أجري الاستفتاء قبل 10 يناير 2017 وتكلل بالنجاح، تُجرى حينها انتخابات رئاسية جديدة. لكن في حال أجري الاستفتاء بعد 10 يناير، وأُقيل مادورو، فمن الممكن أن يحل محله نائبه أريستوبولو إيستوريز، متابعاً ولايته حتى عام 2019، فتذهب جهود المعارضة سدى.
لم تقبل المعارضة ضغط الجيش، بل هبّت إلى تنظيم تظاهرات مضادة لمادورو، في مختلف أنحاء البلاد. وشهدت المدن والمناطق الفنزويلية صدامات عنيفة، بين السلطات والمعارضين، أدت، وفقاً لزعيم المعارضة، هنريك كابريليس، إلى "إصابة أكثر من 120 شخصاً"، بينما ذكرت منظمة حقوقية فنزويلية أن السلطات اعتقلت 39 شخصاً، فيما أعلنت وزارة الداخلية الفنزويلية أن "شرطياً قتل بطلق ناري أثناء التظاهرات وأصيب ضابطان آخران". لم تتوقف الأمور هنا، بل أعلنت المعارضة خطوات تصعيدية متلاحقة، بعد نسف كل الاستحقاقات السياسية، وتبيان حقيقة أن مادورو ينوي البقاء في السلطة حتى نهاية ولايته، في عام 2019. عليه، دعت المعارضة إلى إضراب عام في البلاد ثم تنظيم "مسيرة سلمية"، كانت مقررة غداً الخميس، باتجاه قصر ميرافلوريس الرئاسي، حيث يقطن مادورو، في وقتٍ كان يهدد الرئيس باعتقال قادة المعارضة إذا بدأوا مسعى لإقالته في البرلمان. لا يريد مادورو تكرار مشهد الرئيسة البرازيلية المقالة، ديلما روسيف.
بدا واضحاً أن الأوضاع تتجه إلى حربٍ أهلية داخلية، معطوفة على أزمة اقتصادية مأساوية، ما يُشكّل تناقضاً بين فنزويلا وجارتها كولومبيا، التي أطلقت مساراً سلمياً بين السلطات وحركة "فارك"، منهية أطول حرب أهلية في القرن العشرين. وكما تدخل الفاتيكان في بعض نواحي العملية السلمية الكولومبية، تدخل أيضاً، مع اتحاد دول أميركا الجنوبية، في عملية جمع مادورو بالمعارضة. وقد بوشر الحوار، مساء الأحد، في متحف بالقرب من العاصمة، وأبدى مادورو تأييده للحوار، بقوله "إنني أمدّ يدي إلى المعارضة، فلنبذل قصارى جهودنا للمضي قدماً بطريقة تدريجية ومستدامة"، قبل أن يصافح قياديي المعارضة الخمسة الذين حضروا اللقاء، وأبرزهم خيسوس توريالبا، الذي يرأس ائتلاف الوحدة الديمقراطية المعارض. في هذا السياق، قال مبعوث الفاتيكان، الأسقف كلاوديو ماريا سيلي، إن "البابا (فرنسيس) يتابع الوضع في هذا البلد عن كثب، ويأمل بإمكان استمرار هذه العملية بشكل سلمي". وأضاف أن "الحكومة الفنزويلية والمعارضة اتفقتا على برنامج زمني لمحادثات تهدف إلى تسوية الأزمة السياسية"، مشيراً إلى أن "المحادثات ستتناول أربع قضايا تبحثها مجموعات منفصلة". وكشف أن القضايا هي "احترام حكم القانون وسيادة الحكومة، وحقوق الإنسان والمصالحة، والشؤون الاقتصادية والاجتماعية، ووضع جدول زمني لإجراء الانتخابات"، مشيراً إلى أن "المحادثات ستبدأ يوم 11 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي". مع العلم أن أطرافاً عدة تشارك في دعم الحوار، ومنها بنما والدومينيكان، كما ذكرت قناة "إيه بي سي" الأميركية أن "نائب وزير الخارجية الأميركي توماس شانون سيحضر المحادثات، للتأكيد على دعمنا للحوار". وزار شانون كاراكاس، ملتقياً مادورو، وزعماء المعارضة، في خطوة تُخفف من اتهامات الرئيس الفنزويلي للولايات المتحدة بـ"التورّط في الاحتجاجات الأخيرة".
سياسياً، قد تُحلّ الأمور سريعاً، لكن الوضع الاقتصادي بات مثار قلق بالغ لفنزويلا. الأرقام تتحدث، فحين كان سعر برميل النفط يناهز الـ100 دولار قبل ثلاثة أعوام، كان الوضع الاقتصادي في فنزويلا الغنية بالنفط ممسوكاً، على الرغم من وجود فئة كبيرة تحت خط الفقر. غير أنه مع تراجع أسعار النفط حتى 48 دولاراً للبرميل الواحد مطلع عام 2015، تراجعت مداخيل الحكومة بشكل مخيف، ما دفعها إلى سلوك خطوة مالية خطرة، مع استصدارها عملة ورقية من دون غطاء احتياطي، ليزداد التضخم بنسب عالية. بالتالي، لم يعد غريباً تحول ملايين الفنزويليين إلى كسب قوتهم عن طريق عمليات تجارية صغيرة، أقرب إلى المبادلة التي كانت سائدة في العهود الأولى للتبادل التجاري. ومنهم من ينتظر ساعات من أجل الحصول على مقادير صغيرة من أغذية مدعمة ثم إعادة بيعها، والمتاجرة بالعملات في سوق مواز، وبيع سلع مسروقة. فنزويلا باتت تتحوّل إلى بلد "بدائي"، لا بلد "في طور النمو"، وتعويلها على حوار 11 نوفمبر، قد يكون خطوة في مسارٍ طويل.