02 يونيو 2024
فلسطين.. فكرة الدولة في ظل الاستعمار
أثبتَ هوسُ القيادة السياسية الفلسطينية بفكرة الدولة، بوصفها وسيلةً لتحقيق تقرير المصير والحرية، إضرارهُ بالكفاح في سبيل إنهاء استعمار فلسطين، وقد ارتكبت هذه القيادة، تحت ضغط الأطراف الفاعلة، الإقليمية منها والدولية، خطأً استراتيجياً من خلال إفراد الأولوية لنموذج "كيان الدولة في ظل الاستعمار"، بدلاً من اضطلاعها بإجراءات تفكيك وإنهاء استعمار فلسطين أولاً، ومن ثمَّ الانخراط في إجراءات تشكيل الدولة. فكرة كيان الدولة في ظل الاستعمار وتحته نموذجٌ معيب في جوهره أساساً، وهو بمثابة تشتيتٍ للانتباه وللجهود عن العائق الأساسي (الاستعمار) أمام السلام والعدالة.
وكما حاجج الكاتب في مقالة نشرتها مبادرة الإصلاح العربي، بالتعاون مع "تشاتام هاوس" ضمن سلسلة مقالات تتناول مستقبل الدولة والحوكمة والأمن في الشرق الأوسط، يمكن توضيح سيرورة تبنّي هذه "الأولوية الخطأ" من خلال أربعة "مُنعطفات حرجة" تاريخياً وحتى يومنا هذا. وضمن تلك المنعطفات إعلان الاستقلال الفلسطيني لعام 1988، وتوقيع اتفاقيات إعلان المبادئ (أوسلو) لعام 1993 (كانت في جوهرها ترتيباً أمنياً)، بهدف إقامة الدولة في نهاية المطاف، ومشروع بناء الدولة تحت رئاسة سلام فياض الذي أعلن أن الفلسطينيين يقتربون "من موعدهم مع
الحرية"، حيث أن الدولة موجودة "في كل شيء ما عدا الاسم"، وأخيراً من خلال محاولة السلطة الفلسطينية، بقيادة الرئيس محمود عباس، الحصول على اعتراف الأمم المتحدة بصفة الدولة لفلسطين، وهو الأمر الذي ما زال يتجلّى للعيان. وقد أضحت فكرة "كيان الدولة" بمثابة المنظور الضيق والوحيد الذي تدرسُ القيادة السياسية من خلاله مشروع التحرّر الوطني، والذي تُقيِّمُ استراتيجياتها بموجبه. كذلك صارت فكرة [كيان الدولة] بمثابة المنظور التحليليّ والتشغيلي الذي تستخدمه الجهات الدولية الفاعلة في تحديد تدخلاتها السياساتية، وحزم المساعدات والمعونة التي تقدمها.
ما يجمع بين هذه "المنعطفات الحرجة" الأربعة ليس فقط مركزية "كيان الدولة" في التفكير السياسي الفلسطيني، ولكن أيضاً المحصّلة الناتجة وما يترتّب عنها، ففي نهاية كل منعطف، كان الفلسطينيون يخرجون أضعف وأكثر تجرؤاً وشرذمة وبُعداً عن الدولة. وليست هذه مجرد مصادفة، بل ترتبط هذه النتيجة ارتباطاً مباشراً بفشل الاستراتيجية السياسية المتَّبعة، لأن "الهوَسَ بفكرة الدولة" لم يبقِ على الوضع الراهن واختلال ميزان القوة لصالح المستعمر فحَسب، ولكن تسبَّب بإضعاف كِل من الشعب والأمة، بوصفِ كلٍّ منهما عنصراً أساسياً في أي دولة، وبدلاً من ذلك قام بتمكين "المؤسسات الوطنية الخطأ" في ظل الشرط الاستعماري. وقد مكّن ذلك الهوَسُ الهياكل والمؤسسات الأمنية من ترسيخ مصفوفات السيطرة القائمة، بدلاً من توسيع هامش الحرية الضيق بالفعل، أو توسيع القدرة والإمكانيات لتحقيق الحرية. فقد أوجد هاجس الدولة أوجهَ قصورٍ بنيويةٍ في الحكم الفلسطيني والأنظمة السياسية التي غيّرت بشكل أساسي دور المحكوم، أي الشعب. وفي كل جولةٍ لمشروع بناء كيان الدولة، كان الشعب الفلسطيني يغدو أكثر عزلةً عن جوهر النظام السياسي وهياكل الحكم. ولم يؤدِّ ذلك إلى تآكل شرعية هذه الهيئات الحاكمة واستراتيجياتها فقط، ولكنه جرَّد الشعب الفلسطيني من قدرته على إحداث التغيير، وأضعف مقدِرته على مقاومة الهياكل الاستعمارية والقمعية بصورة فاعلة.
استبعاد هذا المكون الأساسي (الشعب) في "مزيج الدولة" لا يعكس فشلاً محلياً فحَسب، بل أيضاً فشلاً دوليا هدف للاستثمار في بناء "مؤسسات الدولة الحديثة" بصرف النظر عن مدى شمولها وتجاوُبِها أو مساءلتها أمام الشعب، ناهيك عن أدائها الوظيفي وفعاليتها. ولكن عندما تكون الدولة محض سرابٍ وهلوسة (حتى وإن جرى تصويرها من النخبة السياسية على أنها منتهى الطموح الوطني)، فإن الضرورة تقتضي من جميع الفاعلين المعنيين إعادة تقييم مدى أهمية هذا الركن الأساسي (كيان الدولة) لعملية بناء السلام، وإعادة تصوّر نماذجَ مختلفة، كما عليهم أيضاً الانخراط في العمليات التي تُفضي، أولاً وقبل كل شيء، إلى نشوء بيئة مواتية لفكرة الدولة لكي تزدهر وتكون ذات معنى وذات مغزى.
لم تكتف الجهات الفاعلة الحاكمة المحلية والدولية باستبعاد الشعب بوصفه مكونا رئيسيا في
مشروع الدولة، بل استثمرت في "المؤسسات الوطنية الخطأ"، ومكَّنَتها أيضاً في ظل الشرط الاستعماري، فمشروع بناء الدولة للسلطة الفلسطينية، والذي يحظى برعاية دولية ارتكز في طرحه على قدرة هذه الدولة على الحكم من خلال بناء مؤسسة أمنية قوية، وبالتالي أصبح إجراء عملية إصلاح/ إعادة إيجاد القطاع الأمني هو السمة المميزة للدولة المقبلة. وبذريعة مشروع الدولة، نشأ ذلك التلازُم والتماهي التام بين القيادة السياسية والأمنية، حيث يبرّر القادة السياسيون تصرّفات الأجهزة الأمنية، بينما تحمي الأجهزة الأمنية القيادة السياسية، وبدورها فرضت هذه الهيمنة مستوى آخر من السلطة البوليسية على الشعب الفلسطيني. ومن خلال التصرّف وكأنها هيئات ذات سيادة، وتقديم أدائها على أنه أداء "احترافي"، وطَّدت الأطراف الفاعلة الحاكمة وداعموها الماليون السلطَوية الفلسطينية، وأضفت عليها طابعاً احترافياً، وذلك كلّه في ظلّ الحكم الاستعماري الإسرائيلي.
نشوء هياكل الحكم الاستبدادي السلطوي، وغياب العمليات السياسية التشاركية الديمقراطية، والاحتفاء بزخارف وبهارج كيان الدولة، لم تجعل فكرة الدولة (كأداة لإعمال الحقوق) غير قابلة للحياة، وغير قابلة للتحقُّق فقط، بل ساهمت أيضاً في إنكار الحقوق الفلسطينية، بما في ذلك الحق في إقامة دولة ذات سيادة.
ما يجمع بين هذه "المنعطفات الحرجة" الأربعة ليس فقط مركزية "كيان الدولة" في التفكير السياسي الفلسطيني، ولكن أيضاً المحصّلة الناتجة وما يترتّب عنها، ففي نهاية كل منعطف، كان الفلسطينيون يخرجون أضعف وأكثر تجرؤاً وشرذمة وبُعداً عن الدولة. وليست هذه مجرد مصادفة، بل ترتبط هذه النتيجة ارتباطاً مباشراً بفشل الاستراتيجية السياسية المتَّبعة، لأن "الهوَسَ بفكرة الدولة" لم يبقِ على الوضع الراهن واختلال ميزان القوة لصالح المستعمر فحَسب، ولكن تسبَّب بإضعاف كِل من الشعب والأمة، بوصفِ كلٍّ منهما عنصراً أساسياً في أي دولة، وبدلاً من ذلك قام بتمكين "المؤسسات الوطنية الخطأ" في ظل الشرط الاستعماري. وقد مكّن ذلك الهوَسُ الهياكل والمؤسسات الأمنية من ترسيخ مصفوفات السيطرة القائمة، بدلاً من توسيع هامش الحرية الضيق بالفعل، أو توسيع القدرة والإمكانيات لتحقيق الحرية. فقد أوجد هاجس الدولة أوجهَ قصورٍ بنيويةٍ في الحكم الفلسطيني والأنظمة السياسية التي غيّرت بشكل أساسي دور المحكوم، أي الشعب. وفي كل جولةٍ لمشروع بناء كيان الدولة، كان الشعب الفلسطيني يغدو أكثر عزلةً عن جوهر النظام السياسي وهياكل الحكم. ولم يؤدِّ ذلك إلى تآكل شرعية هذه الهيئات الحاكمة واستراتيجياتها فقط، ولكنه جرَّد الشعب الفلسطيني من قدرته على إحداث التغيير، وأضعف مقدِرته على مقاومة الهياكل الاستعمارية والقمعية بصورة فاعلة.
استبعاد هذا المكون الأساسي (الشعب) في "مزيج الدولة" لا يعكس فشلاً محلياً فحَسب، بل أيضاً فشلاً دوليا هدف للاستثمار في بناء "مؤسسات الدولة الحديثة" بصرف النظر عن مدى شمولها وتجاوُبِها أو مساءلتها أمام الشعب، ناهيك عن أدائها الوظيفي وفعاليتها. ولكن عندما تكون الدولة محض سرابٍ وهلوسة (حتى وإن جرى تصويرها من النخبة السياسية على أنها منتهى الطموح الوطني)، فإن الضرورة تقتضي من جميع الفاعلين المعنيين إعادة تقييم مدى أهمية هذا الركن الأساسي (كيان الدولة) لعملية بناء السلام، وإعادة تصوّر نماذجَ مختلفة، كما عليهم أيضاً الانخراط في العمليات التي تُفضي، أولاً وقبل كل شيء، إلى نشوء بيئة مواتية لفكرة الدولة لكي تزدهر وتكون ذات معنى وذات مغزى.
لم تكتف الجهات الفاعلة الحاكمة المحلية والدولية باستبعاد الشعب بوصفه مكونا رئيسيا في
نشوء هياكل الحكم الاستبدادي السلطوي، وغياب العمليات السياسية التشاركية الديمقراطية، والاحتفاء بزخارف وبهارج كيان الدولة، لم تجعل فكرة الدولة (كأداة لإعمال الحقوق) غير قابلة للحياة، وغير قابلة للتحقُّق فقط، بل ساهمت أيضاً في إنكار الحقوق الفلسطينية، بما في ذلك الحق في إقامة دولة ذات سيادة.