فلسطين المحاصرة من عرب السلام

07 يوليو 2014

طفلان فلسطينيان أمام جرافيتي في غزة عن المقاومة (نوفمبر/2012/أ.ف.ب)

+ الخط -
تشير الأحداث الأخيرة في فلسطين إلى جملة أمور، من أهمها مواصلة عرب السلام، من أنظمة وأجهزة إعلامية وكُتَّاب وصحافيين، محاصرة القضية الفلسطينية، بخيار الاستسلام للمحتل، ورفض مقاومته، فقد قرر هذا الفريق، منذ أكثر من عقدين، أنه لا يمكن تجاوز التفوق الإسرائيلي علينا، وأن الهزيمة قدرنا، وأن الوقت حان لتحسين شروط الهزيمة، وتجميلها، ما قادهم إلى رفض كل محاولة لمقاومة إسرائيل، وتجريمها، والقول إنها عبثٌ لا طائل منه، وتعطيلٌ لجهود السلام.
بعد خطف ثلاثة مستوطنين وقتلهم، والرد الإسرائيلي في غزة، واصل فريق السلام العربي
 ممارسة هوايته المفضلة، في لوم المقاومة الفلسطينية، وتحميلها مسؤولية ما جرى، فهذا الفريق يرفض "استفزاز" إسرائيل، ويعتبره صانع المشكلة، متجاهلاً الاحتلال الذي هو أصل المشكلة، ومحاولاً الإيحاء بأن القضية الفلسطينية هي أزمة حدودية بين جارين، ما يعني أن فعل المقاومة اعتداءٌ، يبرر ردة الفعل الإسرائيلية، ويُحمِّل المقاومة المسؤولية عن كل ما يترتب على فعلها.
لا تسقط قضية فلسطين بالتقادم، ولا ينبغي أن نسمح لمرور الزمن، وتوالي السنين، بأن يمحو ذاكرتنا، فالمقاومة ليست استفزازاً لجارٍ همجي لا يجب استفزازه، بل ردة فعل على الاحتلال، وعمليات المقاومة يشرعنها استمرار هذا الاحتلال. لم تبدأ القضية الفلسطينية عام 1967، وهي ليست قضية أراضٍ هنا وهناك، نتبادلها مع الإسرائيليين، كما العقار الذي يُتَبَادَل ويُثَمَّن، مثلما يقترح وزراء الخارجية العرب الذين عدلوا مبادرة السلام العربية، وأرادوا إقناع الأميركيين والإسرائيليين بتبادل الأراضي، ولم يحصلوا على الرغم من خضوعهم على شيء. القضية الفلسطينية هي قضية الهجمة الاستعمارية على الوطن العربي، والتي شملت كل أجزائه تقريباً، بأشكال وأحجام متفاوتة، فقد كانت فلسطين، في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مثل غيرها من أقطار الوطن العربي، هدفاً للاستعمار الغربي، وتقاطعت في فلسطين، تحديداً، الأهداف الاستعمارية وأطماع الحركة الصهيونية، فنتج الاستيطان اليهودي في فلسطين، عبر الهجرات التي شجعها المستعمر.
لا ينحصر الحديث عن عروبة فلسطين، والتأكيد على أنها شأن عربي، في استعادة تاريخ الصراع "العربي-الإسرائيلي"، ومشاركة الجيوش العربية في محاولة تحرير فلسطين عام 1948، أو في توضيح استهداف الإسرائيليين عبر الاحتلال المباشر، أو العدوان العسكري، دولاً عربية عديدة، حتى من تلك التي لا تُصنَّف من دول الطَّوق، بل يتعدى الأمر هذه الشواهد، إلى الاستدلال بفكرة الانكفاء والانعزال عن قضية فلسطين، وتركها للفلسطينيين، التي لم تتجسد على أرض الواقع، فالتيارات والجهات السياسية العربية التي روَّجت هذه الفكرة، لم تتوقف عن التعاطي مع القضية الفلسطينية، وإنْ كان ذلك عبر محاولة قَبْرها بمزيد من التنازلات التي ترضي الإسرائيليين، تحت غطاء مشاريع السلام التي قُدِّمت في العالم العربي بديلاً لمشاريع المواجهة. هذه الجهات السياسية العربية ادَّعت الخروج من القضية الفلسطينية، وقامت بالدخول فيها من الباب الآخر، أي من الباب الصهيوني، عبر إعادة التموضع في معادلة الصراع، والانحياز للرواية الإسرائيلية، والتعاون مع إسرائيل ضد "المتمردين" من الفلسطينيين والعرب الذين يرفضون الخضوع للمنطق الإسرائيلي والغربي، وهي تؤكد، بهذا، أنه لا مكان للحياد في قضية فلسطين، ولابد من الانخراط في هذا الشأن العربي، بغض النظر عن التفاصيل.
لا يكتفي فريق السلام العربي بلوم المقاومة الفلسطينية على أعمالها، فهو يسعى إلى محاصرتها، وتشديد الخناق عليها، ويرحب بالتعاون الأمني والاستخباراتي مع إسرائيل، لمنع وصول السلاح إلى المقاومة، ثم يستهزئ بقدرات المقاومة وإمكاناتها التي يشارك هو في محاولة تحجيمها، وعلى الرغم من ذلك، فإن إمكانات المقاومة أكثر قدرة على تحرير الأرض والأسرى، والضغط على إسرائيل لاستعادة الحقوق، كما أثبتت تجارب العقدين الأخيرين في لبنان وفلسطين، فيما لا يقدم مسار التسوية أي إنجازٍ ملموس، ويتخبط رعاته العرب أمام التعنت الإسرائيلي، وإصرار الاحتلال على تقديمهم مزيداً من التنازلات من دون مقابل.
لم تُنتج التسوية سوى جهازٍ بيروقراطي من دون دولة في الضفة الغربية، لا يستطيع رسم حدوده، ليسيطر عليها، ولا يستطيع التحكم بأمن أراضيه، على الرغم من كثرة عناصره الأمنية، ولا تتجاوز وظيفته التنسيق مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، وإخماد أي محاولة، أو نيَّة، للانتفاض ضد الإسرائيليين، فلم تُدرِّب إسرائيل عناصر جهاز السلطة الفلسطينية الأمني وتُجهِّزهم عبثاً. يحرص أهل السلطة الفلسطينية، وأنصارهم، من فريق السلام العربي، على التركيز على الشكليات، باستحضار مفردات الدولة ولغتها، أو تصوير الدخول عضواً مراقباً في الأمم المتحدة إنجازاً يعادل عودة فلسطين التاريخية. حتى الحديث عن الانتعاش الاقتصادي في الضفة الغربية ليس إلا محاولةً لتلميع التبعية الاقتصادية للاحتلال الصهيوني، من دون أن ننسى أهم منجز لمسار التسوية: الزيادة المضطردة في عدد المستوطنات التي تُقطِّع الضفة الغربية، وتجعل إقامة دولة فيها مستحيلاً، وتُحَوِّل التجمعات الفلسطينية في الضفة إلى كانتونات معزولة عن بعضها، فيما الإسرائيليون يخلقون واقعاً استيطانياً، لا يتخلون عنه في المفاوضات.
قضية فلسطين ليست محاصرة فقط من آلة عرب السلام الإعلامية، التي تُجرِّم المقاومة، وتُروِّج رواية مغايرة ومبتورة عن فلسطين، وإنما القضية المركزية في أيامنا محاصرة بمعارك العرب الطائفية، والتي تغيّر موقعها في ترتيب الأولويات، وتُحوِّلها من بوصلة للأمة إلى مجرد خبر في ذيل النشرات الإخبارية.
9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".